أبحث عن موضوع

الخميس، 26 يناير 2017

دم الخاتم ( قصة قصيرة )............... بقلم : مزهر جبار // العراق




- تعال أستاذ عصام
- لاتنتظرني
وقفت أنظر الى الانحاء. شىء مني في المكان جذبي إليه. تخلفت عن الجميع. لم يبق أحدُ من العمال وأرباب العمل من الأجانب. أمامي، أعمدة ( ريك) الحفر؛ لحفر بئر نفط جديد. أتعبني العمل في شركة النفط كمترجم من الأنكليزية الى العربية وبالعكس. في مكان أبعدني كثيراً عن أمكنة رغباتي وعن الأمكنة التى أحقق فيها ذاتي. تركض ذاكرة الماء إليَ. يصلني ضجيج وصخب العمال. مخيم الشركة الى الخلف مني. لا يبعد سواء بضعة أمتار. أقتعد على التراب. تمشي بي السنون. محطات لقطار العمر. أبتلعت التربة الماء. شجيرات الطرفة والاثل والخرنوب على وجه الارض. كانت يوماً بحور ماء خلف الساتر. ركض الزمن على لوح الذاكرة. عبر جسور الألم. تركت الشمس خلفها وهي تغادر؛ لوحة بلون الدم. اشباح منحنية وواقفة وممددة. تنزف خيوط دم يتراقص. هدأ المخيم. تسيده الصمت والسكون. أختفت اللوحة عن ناظريَ. دفعتها ذاكرة بحور الماء وسواترها الى خارج الوجود. حل الظلام. سكت فم الموت. لحظات هاربة من مطحنة البشر. تمنيت في الداخل مني أن تدوم. على مقربة مني. تمتد اعانق الاحدايات والثنائيات. أحاديتي، أحتمت بالصمت. قبل دقائق، أختفت ذيول الشمس. أسمع غناءاً شجياً في بداية الليل. في دقائق كهذه، يفرد جاسم جناحيه على جسد الموت المتوثب بين ثنايا العتمة وأردية الغفلة. غناء شجي. جاسم أخذ يغني. يؤلمني صوت جاسم. بحة متفردة في النبر. يكثف وحشية الصوت الناعم، وجع الروح. تدور به دوامات الحزن. فراق حبيبته طوق حديد ساخن، يحرق القلب. أودع الشجن في الكلمات. في كل ليلة يغني. عندما يتوقف صراخ المدافع. دقائق؛ يبث خلالها الحسرات. يشعرني من أنه لايغني، تبكي البحة في حنجرته. كان يغني مذ حط رحاله على الرغم منه هنا في الموضع. غناء فيه حزنا شديداً ، كما النادبات في العزاءات. منامتي جوار منامته. أحسه حين يرجع من أجازته، حاملاً الهم على راحتيه. لم يفتح فاهه. يبكي من غير بكاء. لم أشأ في كل مرة يعود، أن أثقل عليه. كهذه الدقائق، كان الساتر كمقبرة. حتى ولا نأمة. وجاسم يغني. يغني أم يندب على حبيبته مياسة. كان قد أسر لي بحبه لشابة من قريته، قرية الزجيه، أسمها مياسه. عشقها بحب عاصف. يزجيا الوقت بالغناء. هي تغني وهويغني.
- كنتما تتحاوران بالغناء
- نعم في النهار وفي الليل شكل آخر
في الليل تأخذ الحياة والحب طريقاً مختلفاً. يختليا بستر الظلام. النجوم فوانيس حب تتلامع. ظلا ينتظرا يوم الفرح. أسبوعان ويدخلا جنة ما رغبا. أرادا أن يسبقا السوق الى الجيش. بعد شهرسوف تساق مواليده الى الخدمة العسكرية.عندما يتذكر ذلك اليوم يتنهد ويدفع من فيه في وجهي؛ حزم من زفير حار يلفحني: "الفرح خاصمني ولم يزل". كان يقول لي في لحظة الاسى. جاء النذير من المذياع. فتحت أفواه الحرب. في ذات اليوم الذي أتفقا فيه على يوم العرس بعد أسبوعين. كان يوم صارخا بالنهاية. أنقطع الآمل في الزواج لحين. قالا لبعضهما: شهر، شهران وتنتهي الحرب. الحرب لم تنته. ظلت بلا هوادة تطحن كل آمل له بالخلاص ومن ثم العرس والحياة. قلت له: لماذا لا تتزوج في أثناء الاجازة. تأفف مثل أسد جريح، ينتظر شفاء جراح جسده. كان يخاف الأستشهاد ويترك حبيبته تصارع الدنيا بلا معين لها في دروب العاديات. ردد على مسمعي بامتعاض وحسرة: الطامة الكبرى، أستاذ؛ أن يمنحني رحم العشق أبناً أو بنتاً وربما أكثر أذا أمهلتني صوارخ الموت بعضاً من الزمن. في اليوم الذي ألتحق فيه الى الحرب؛ أنفجر بالغضب واليأس. لحظة عانق فيها مياسه، بكى من غير دموع. قال لها: لامفر من الذي لا مفر منه. القرية والهور عيون تتلصص. لذا دخل في خوانق الرصاص. رد عني بؤس المكان ووحشة ظلام الليل ونباح ألسنة الحرائق. يستمربلا أنقطاع وبالذات في ليل النار؛ يموسق الأسى بأوتار أدامية. يضخ فيها كل مابه من شوق الوصول سالماً ذات يوم. تتباعد المسافات كلما قطع شوطا الى محطة الحب المنتظر. أسألني في الحندس والسكون المباغت والمحبب: أأننجح في البقاء أحياء. أأننفلت من دوران المطحنة. كم من الحيوات نجت في هذه الدقائق من الفناء. ثمة فوران يصرخ داخلي في كائنات البشر المتخندقة في الشقوق والرابضة وراء السواتر من الجانبين: ما ضركم لو أوقفتم الأصابع والأكف من الضغط على زرر المطاحن. في قرارة نفسي؛ أعرف أن هذا محض خيال وحلم بعيد المنال. تعيدني لواعج الروح في ذات جاسم من ملمات فراغ العمر من الحياة. وحاضر ضاع فيه الآمل في الخلاص من رماح حرب لاتنتهي في القريب: يمه يا يمه... أنصت حزيناً إليه. يشعرني بأن أشياء كثيرة كسرت فينا. كان يبوح لي في لحظات الشجن والهم: نحن حطب الحرائق. عندما تمارس حنجرته الغدر معه، ينام. أظل أنا ساهراً وناطراً أنقضى الليل وتوقف عوى المدافع والاحاديات والاثنائيات. تخذلني ولا تتوقف. رغبتي رغم القلق من الموت القادم من غير أذونات، في كون من أزيز وأنين؛ أتحايل عليها وأقود يدي الى حقيبتي. أخرج روية الحرب والسلام. أشرأب أياد برأسه من تحت الغطاء: ألا تنام. لم أجب. كنت أنتظر أن يفرغ ما فيه من توبيخ لي. لأعود الى السياحة والحوار مع كائنات تولستوي. أذ ودعتها في الليلة الفائته. همهم كاظم من الطرف الثاني للملجىء. أنتظرت بفارغ الصبر أن ينتهيا لوم أياد وهمهة كاظم. " أمري لله". قال أياد ورجع الى النوم يئساً من ثني كعادته. أخذت أقرأ بنهم كما في كل ليلة. تؤنسني الكلمات. تفرغ من روحي مخزونات القلق والخوف من الموت أو الأعاقة. أنسى لساعة وأحيانا أكثر ما أنا فيه من فضاءات الفناء. جاسم من فيه؛ تخرج خنة لصوت مختنق في الحلق وشخير. ينقلب جهة ذبالة الفانوس أمامي. تكلم بتأتأة. مخارج الكلمات مفهومة: جاسم خلينه نعرس. الحرب ما تخلص. خايب يخلص عمرنه وما تخلص. أتأمل السكون على أمتداد الساتر. أقول متهكما: ربما صوت جاسم أخرس نباح البنادق والهاونات. يستمر في الغناء على مقربة مني. كم جميل هذا الليل بلا ضجيج ووميض. أقول مترنما بصوت أم كلثوم: الليل، الليل، الليل..لكن طبقات النغم الريفي الفارط النعومة لأشجانه، يرجعني إليه. أتجاوز على المحظورات. أجبرني حرماني من أشتهاءاتي لعشق الحياة والكلمات. أشعلت سكارة. دفعت مع الدخان الى صدري، كل قهري. عاط مدفع من الجانب الثاني. ثم تبادلت قذائف الموت؛ العواء من الجانبين. أختفى وهج الليل في خنادق الدخان. أجنحة دوامة الهواء، رفعتني من مكاني، بأقل من حركة رمش العين. دوي أنفجار هائل، شق الفضاء خلفي. غيوم نار ودخان. سقط الترب على جسدي. صراخ من كل مكان في الانحاء حولي. ثمة من يمضغ الألم مع القول، مختنق العبرات يقول: لقد أستشهد جميع من كانوا في الملجىء. وجدتني أتحسس صدري وأطرافي وبطني.
- ألهي
تلامعت بالضوء مشاعل الانارة. تماسكت ومن ثم تغلبت على رعب السقطة وزمجرة القذائف والرصاص. أدرت الذراع. نفضت عنها التراب. أرجفتني رهبة الدم. يتقاطر حاراً من جذر الذراع. مسحت الدم من على خاتم الخنصر. تمعنت فيه على ضوء حزم التنوير فوقي
- الخاتم، مكتوب فيه أسمانا يا أستاذ
أشتد الرمي من الجانبين. شذرة الخاتم، تلمع. نام الساعد على صدري. أستمر سيل الدم، أسفل بطني. سحبني سعد من وجع السنين السابقات؛ نادني من المخيم: أن تعال. العشاء جاهز...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق