أبحث عن موضوع

السبت، 19 مارس 2022

رواية : عباس الفلسطيني / نهاية ثائر في بيروت/ ق.ق.............. بقلم : سليمان الهواري - المغرب




رواية : عباس الفلسطيني
Tche Le Palestinien
الجزء الثامن 8/30
** **
"عدن" مدينة "القات" والسلاح والغناء ..
اليمن ذاك البلد الجنوبي الذي لا يدعه أحد كي يكون سعيدا .. وصدر الرفاق لم يتحمل قصائد شاعر كل يوم تتوسع دائرة احتجاجه أكثر ..
"إدريس" شاعر من منطقة "الحديدة" اليمنية وهو ابن الثورة منذ داعبه الحلم الاشتراكي صغيرا .. كانت منشوراته الموقعة باسم "ثائر اليمن" تلهب رفاق " الجبهة القومية " في الجامعة وسرعان ما صار له موعد يومي على جريدة " الطليعة "وكل صباح يبصم افتتاحيته بقهوته مع رغيف الشعب المقهور ، ليَضيع بعدها بين مسؤولياته في شبيبة "الحزب " والأزمة التي تخنق حياة الناس بين الحصار المفروض على الدولة الوليدة وقلة تجربة الحكم الذي ينتهي دائما عند العرب إلى مزرعة شخصية يستأثر بها السيد "الزعيم" مهما كان لون الشعارات التي تملأ الخطب ..
سرعان ما وجد إدريس نفسه في المنفى الاختياري (ملحقا صحفيا) بدون مهمة في سفارة اليمن الجنوبي ببيروت..
هنا كانت بدايته مع جريدة "الشهيد" الفلسطينية .. و هنا عرف العالم اسم "ثائر أبو العبد" صحفيا فلسطيني الهوية شاعري القلم..
هنا عاش تجربة وحدة العرب الموؤودة داخل أروقة الجريدة ، وجنسيات منتسبيها الكثر ، وبيوتات مقراتها المتنقلة من مكان لمكان حتى يستمر الحلم رغم القصف الدائم على دور الطباعة والنشر ومقرات المجلات و الجرائد في زمن الميليشيات والحرب الأهلية ..
هنا تعرف ثائر على "ماريا كنفاني" من خلال صديقته "فاطمة مخزومي" ، الطالبة اللبنانية التي تدرس معها في نفس الجامعة .. وكان طبيعيا أن تتوطد علاقته بعباس ويقتربان من بعضهما أكثرمع الأيام خاصة وهما معا ممن تبع حلم الشعب حتى عاصمة الثورة والشعر وفلسطين..
بيروت توشك أن تكون حقا عاصمة لفلسطين المؤجلة ، في انتظار التحرير..
ولواعج الغربة المضاعفة والمرأة والشعر ، حكايات ثورة أخرى في قلبيْ عاشقين ..
كان "ثائر" كثيرا ما يطفح به السكر فيهيج بالبكاء على هذه السطوح المهجورة في الضاحية الجنوبية لبيروت .. كان يسكن في بيت صغير ، غرفة ضيقة و بهوٌ جانبه الأيمن جعله مطبخا تكتسحه "المواعين" المتسخة ، ومائدة صغيرة تتوسطه مع كنبتين .. والكتب تملأ المكان ، جرائد ومجلات وأوراق ودفاتر تغطي الأرض وأسطوانات أغاني متكدسة بلا ترتيب ..
نصف قنينة نبيذ فقط هي ما تبقى على المائدة الليلة وفاطمة دخلت من ساعة كي تنام .. كان شخيرها يسمع من خارج الغرفة ، يغطي صوتهاعلى بحة أم كلثوم كوكب هذا الشرق المنطفئ ..
كانت أغنية أم كلثوم تغالب الغرفة كي تتفوق على شخير فاطمة وعلى الأسطوانة الرديئة التي تتوقف بين الحين والآخر ، متأثرة بالإبرة التي تتعثر كل مرة في خدوش الأسطوانة الغير المحظوظة بعاشق لا يحترم أشياءه..
كان الكل مستغرقا مع أم كلثوم في "الحب كده"
((الحب كده
حبيب قلبي وقلبي معاه بحبه في رضاه وجفاه
اوريه الملام بالعين وقلبي على الرضا ناوي
بيجرح قد ما يجرح ويعطف تاني ويداوي
اهو من ده وده الحب كده مش عايزة كلام
الحب كده ))
كان الجميع يترنح مع سيدة الليل والسكر و المُلتاعين بالحب..
كانت ماريا ممددة على الكنبة الطويلة وهي لازالت ترتدي سروال "الدجينز" الأزرق و"جاكيطتها" الرمادية ، وتضع على نصفها الأسفل غطاء صغيرا بعد أن بدأ البرد يتسلل إلى غرفة ثائر الشبه مكشوفة على السطوح ..
عباس لا يشرب عادة لكن لا بأس الليلة من كأس تدفئ صقيع الغربة في بيروت الضاحية ..
السكن هنا عالم مختلف وشارع الحمرة لا يهدأ ليل نهار، خاصة والتوتر جد مرتفع هذه الأيام ولا أحد يعرف مصير "السيد" الذي راح في زيارة رسمية ل"لقدافي" في "ليبيا" ، ولم يعد..
"السيد موسى الصدر" زعيم "حركة المحرومين" "أمل" لم يكن مجرد قائد سياسي ، لقد كان "موسى" "مهديا" آخركتب على المحرومين أن ينتظروه كما ينتظرون مهديهم الأكبر من ألف سنة .. والمسألة ليست في السياسة ، إنها في الدين ، والضاحية توشك أن تصير كعبة أو هي صارت فعلا كربلاء أخرى ، وهؤلاء يتغنون الانتقام من قرون طويلة ..
أفرغ ثائر الكأس جرعة واحدة في حلقه دون أن تمر بلسانه ثم حاول أن يتدلى إلى الأرض ليأخذ سيجارته التي سقطت من بين أصابعه ، و توشك أن تحرق السجاد القديم الذي يغطي الإسفلت كما كل مرة ..
غالبا ما كنتَ تلاحظ أثر حريق السجائر على ملابس ثائر..
لكنه لم يتمكن من النهوض فهو لم يعد قادرا على حمل نفسه حتى ، ليسقط على الأرض ..
- (( الله يلعن سنسفيل أجدادك يا سادات ))
كان ثائر يكلم ثائر نفسه بصوت شبه مسموع..
حاول عباس أن يساعده على الوقوف لكن "اليمني النحيف" كان قد التصق بالأرض وقد فرق رجليه وأرخى رأسه الثقيلة على صدره ..
- ((( قل لي أيها الايراني .. هل يمكن أن تقوم للثورة قائمة في هذه الأوطان البئيسة ؟ ))
كانت ماريا تتحامل على نفسها كي تبدو مستيقظة لعلها تساعد عباس على حمل ثائر الى غرفته ..
- (( والله لا أمل .. حتى لو قطعت نفسك قطعا صغيرة وأطعمتها لهذه الشعوب فلا تنتظر منها أبدا أن تنظر إلى تضحياتك ، ولا إلى عذاباتك .. ربما هي تستحق ما هي فيه ..
نحن نعيش الوهم .. وليس الثورة يا عباس .. ))
كان عباس يسنده مع ماريا على ذراعه ..
- (( أنا لست سكرانا يا عباس ..
أنا حزين فقط .. حزين جدا ..
قل لي ، شو لي جاب أبوه على "تل أبيب" وقال سلام
الله يلعن أبوك على ابو السلام يا أنوار السادات الزفت))
كان ثائر يحاول أن يبقى واقفا ..
- (( هل تعلم يا عباس أن مصر اذا سقطت لن تقوم لخيمتنا قائمة ، فدمشق و بغداد يتيمتان دون القاهرة .. ))
كان عباس أصغر سنا من ثائر لكنه الآن يحس أنه "أبوه" ويجب عليه أن يحميه .. هو وحده يعرف ما معنى أن تحتاج صدر أمك في ساعات الانكسار .. ياما شعر عباس باليتم في رحلة غربته الطويلة .. ودّ لو يضع رأسه على ركبة أبيه وينام بعمق .. ودّ لو يد أبيه كانت تداعب شعره حتى ينام .. طالما أحس بالحاجة للأمان ..
فإلى متى سيظل واقفا و الخوف يسكنه دائما من خشية السقوط وهو وحده ولا أحد فعلا معه ؟ .. أليس من حقه أن يرتاح ؟
تمنى عباس لو يبكي الآن مثل ثائر ، لكنه ضيع دموعه في مجاهيل الطريق وعيناه الآن كما صحراء لم تعرف ريح المطر ، لا ماء فيها من زمن طويل..
تمالك ثائر نفسه واقفا على باب الغرفة بين يدي عباس وماريا وهو يقرأ .. كما أي سكران يقرأ قصيدة شعر وهو لا يعرف هل يبكي أم هل يجب أن يضحك ؟
لا تصالحْ!..
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
كانا يحملان "ثائر" فعلا حتى وضعاه على السرير ، وقبل أن يطفئ عباس ضوء الغرفة سبقته عيناه إلى أرضية الركن الأيمن حيث تناثرت مجموعة جوازات سفر بشكل مثير ، خطى إليها بسرعة وأخذ أولها دون تفكير لكن الصدمة أوقفته .. كان جواز السفر يحمل صورة أحد قيادات المنظمة في بيروت لكن الاسم هنا لم يكن اسمه الحقيقي..
( ربّاه ماذا أفعل هنا وكيف تجرأت على هذا ؟)
ترك كل شيء على ما هو عليه وخرج مسرعا إلى البهو .. كان قلبه سيتوقف عن النبض وهو يقفل باب الغرفة على ثائر..
قرر عباس مع نفسه أنه لم يجد أبدا أية جوازات سفر في غرفة ثائر ولم ير صورة أحد وربما لم يلتق أصلا ثائر هذه الليلة .. لقد نسي كل شيء..
اكتفى عباس بوضع "جاكيطته" الثقيلة على المائدة دون أن ينزع حتى حزام سرواله ثم تسلل جنب ماريا على الكنبة الضيقة ..
كانت أنفاسها تختلط بأنفاسه وهو يحضنها بين يديه .. تكومت أكثر و ركبتاها في بطنه ..
- (( الليلةلاوقت لممارسة الحب يا ماريا
... الليلة تفتحت جراح الغربة والوطن ))
ملأت أنفاسه رائحة فاكهة المانغ التي تطلع من تحت نهدي ماريا وتكتسح جسميهما الملتصقين لتشتعل الرغبة في تفاصيله العطشانة حقا لأنثى ملكوتية مثل ماريا .. لكنه يكبح جماحه فعلا ويضمها إلى صدره أكثر .. غطى رقبتها حتى لا يتسلل البرد إليها .. كانت أنفاسها تهدأ مع الوقت وهو لايزال يحرس أشباح الذكريات الحزينة .. حتى نام من التعب فقط .. لقد كان مجهدا حقا..
...
(( ..لقد كانت آخر مرة ألتقي فيها بثائر من ثلاثة أشهر، ليلتنا تلك..
وهذه العطلة الصيفية الملعونة أبعدتك عني إلى المخيم ،
صراع القبائل هنا لا ينتهي ، والسياسة تموت كل يوم ،
وحدها لغة الرصاص تتكلم ..
شيوخ القبائل يعيدون لقريش أمجاد داحس و الغبراء ،
"ثائر أبو العبد" لم يتحمل كل انتكاساتنا في زمن نستفيق فيه على بيروت و "شارون" يدق أبواب المخيمات..
فأنّى لشاعر أن يتحمل كل هذه القساوة ؟
لم يكن "إدريس اليمني" محترف قتال ، كان مجرد شاعر يحمل قلبا هشا وسماوات أحلام ..
ثائر لم يتحمل كل هذا البؤس على الأرض ..
ولم ينتظر موعدا مع الرب ..
ثائر لم يكن سكرانا حتى لا يقال أنه انتحر ،
لقد كان في شبه احتفال أخير
أخذ حماما دافئا ثم ارتدى بدلته الزرقاء الجميلة وكأنه سيلقي شعرا في فعاليات جامعة عدن ..
لم يكمل احتساء كأس الشاي على مائدة البيت النظيفة جدا .. سيجارته أيضا لم يكمل تدخينها ..
كان يريد أن يودع أمه وهي مريضة هناك دون أن يتمكن من زيارتها .. قبّل يديها طويلا ..
وضع ثائر على المائدة ديوان " من أرض بلقيس" الذي كان يقرأ فيه لشاعره الذي يعشق "عبد الله البردوني" ..
وكتب بأحرف كبيرة على غلافه :
(( أحببتك يا وطني بلا شرط .. لكن حبي كان بلا فائدة ))
ثم أخذ مسدسه الصغير وأطلق رصاصة على صدغه الأيمن ،
ومات مطمئنا ..
كان يعرف أن الغرباء لا يموتون .. لأنهم ببساطة لم يولدوا أصلا .. هم موعودون بحياة أخرى ، أجمل..
(( أنا حزين يا ماريا
فمثل ثائر أنا .. لكني أحمد الله أني لست بشاعر ،
أنا مجرد عاشق ،
غادرت وطني الصغير وعانقت الوطن الأكبر
وعندما أحببتك صرت لي أنت الوطن كما فلسطين ،
نعم يا ماريا ،
قد أكون أحببتك بلا أمل .. لأنها الحرب
وأحببتك بلا أمل .. لأنها الثورة
وكأن الفدائي مخلوق بلا قلب كي يعشق
وأنا عشقتك .. وسأعشقك رغم كل شيء
أحبك رغم الدين ،
فهل قلبك سألك عن قلبي على أي دين يخفق ؟
وأي معطف أحمل .. وأي الألوان أحب ؟
أنا وجدتني أحبك دون سؤال ، ودون سبب ، ودون هدف..
قدري أن أحبك ودون حاجة أن أعرف نهاية الطريق..
الحب أهم من كل تفكير .. الحب هو الهدف
ولتكوني لي أو لا تكوني
أنا أحبك والسلام
التوقيع : عباس أصفهاني
** سليمان الهواري /
رواية : عباس الفلسطينيTche Le Palestinien
**




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق