أبحث عن موضوع

الأربعاء، 12 أبريل 2017

( بيان ختامي) قصة قصيرة.................. بقلم : مزهر جبر // العراق




ذهلت ولم تصدق عينيها، إذ وقعتا عند التقاطع، على الاستاذة سهاد وزوجها الدكتور فائق. كانا على بعد أقل من متر منها، سيارتهما تحاذي الرصيف، بين زحام السيارات التى تتحرك، حركة السلحفاة، الممتد في نهر الطريق الى التقاطع. تابعت المشي على سطح الضياع، بين السابلة. لم تنادِ عليهما على الرغم من الرغبة العارمة في الحديث إليهما والتى سيطرت عليها في تلك اللحظة. عندما أستدارت الى يمين الساحة مع خروج السيارات واحدة وراء أخرى من قبضة السيطرة والتفتيش، الى شارع المحلات والمطاعم والمقاهي، التفت وراءها، لم تر سيارتهما، كانت هناك في البعيد. طفلها لم يزل من قسوة الجوع نائماً على ساعدها بعد أن اتعبه البكاء. لاذت بالصمت، صمت من نوع مختلف، صمت تتنازعه عشرات الاسئلة والتى ليس لها؛ اجابات. جلست لتحتمي من هجير الظهيرة على مصطبة الرصيف، تحت سدرة ظليلة. تسمع هرج رواد المقهى وصوت التلفاز، طنين وضوضاء في إذنيها كأنهما قادمان من مكان بعيد مع أن المسافة لا تتعدى الأمتار. يجيء صوت الاستاذة سهاد، إليها، عابراً قناطر فصول التيه بتعاقبها من الصحو والغيوم والمطر والجفاف. : مبارك لكما النجاح. في ذلك النهار عز عليهما مغادرة الممرات والحدائق الصغيرة المنتشرة هنا وهناك بين مباني الكلية. : أنا طير بي توق للتحليق هناك تحت زرقة السماء. : وأنا. : ليس في الكون طير، يحلق وحيداً؛ حتما هناك، طيران يطيران، تلك هي ضرورات الوجود. ذاكرتها لم تتعود على خيانتها حتى وهي مشتتة الذهن والحواس؛ تدفقت كلمات الأستاذة سهاد مجتازة موانع الزمن إذ تسمعها في قاعة الدرس تقول: تلك هي السنة الآخيرة لنا هنا، أنا والدكتور فائق فقد حصلنا على عقد عمل في إحدى الجامعات.. ولم تكمل أو توضح على استفسارت الطلبة والحاحهم فقد كانت هي وإياد أكثر ألحاحاً من الجميع. خاطبت الريح بلا كلمات: ألهي أنا وطفلي المشوه هذا نكاد نموت جوعاً. وبخت نفسهاعلى أنها لم تقم بما يستوجب القيام به في مثل هذه الحالات؛ كان عليها مناداة الدكتور فائق وتطلب منه التوقف واركنة سيارته بالقرب من الرصيف. إذ، لايمكن نساها وحتى أن نساها، الأستاذة سهاد من غير المرجح، تكون قد نستها، أربع سنوات من التلمذة، لاتنمحي بسهولة. كانا هي وزوجها قد رحلا قبل أقل من سنة من الاحداث. : هل كان الدكتور يعلم من دون أن يعلمه أحداً. عندما اختنقت من جورالوحدة، أخذت تلوم نفسها على فعلت. تركت خلفها حياة محطمة حولتها المدافع والطائرات الى نثار ذرر تذروها الريح الى حيث تتجه وتريد. تسمع بين الفينة والاخرى صوت زوجها يناديها؛ تعالِ. كانت تلك المساءات، مساءات محبة وآلفة، ينسيان فيهما كل شيء. ليل ومساء الفرح ذاك صار بعيداً. يقضيان ساعات في حميمة ودفء الروح. سالت دموع الحسرةعلى خديها من غير إرادة منها وانسكبت في فمها. سنتان أو اكثر قليلا مرتا عليهما مثل طيف حلم جميل حل سريعا وانمحى بالبارود وقذائف الجنون. تزوجا بعد التخرج وعملا في مكان عمل واحد. كانت الحياة تجري سلسة وهادئة. ذات مساء أحست بعلامات الحمل، وفي عين المساء؛ هاجت الناس تهتف في الشوارع : الشعب يريد اسقاط النظام. الشعب يريد ديمقراطية وحرية. ازدحم الطريق بالمتظهرين. ارادا الوصول مهما كلف الأمر الى العيادة الطبية والتأكد مختبريا من الحمل. فتشا في الطريق عن سيارة تقلهما، لم يجداها. اضطرا على قطع المسافة مشياً. بعد الأي وصلا. انتظرا عشر دقائق لا أكثر بعد أخذ العينة. : الحمل كاذب قالت البايلوجية وهي تسلمها النتيجة مكتوبة على قصاصة ورق صغيرة. بعد شهرين تكررت نفس العلامات. تألما أذ كانت النتيجة، هي عينها قبل شهرين. انقضت اشهر بعد ذلك ولم يحدث اي شيء مما كانا يآملان حتى دب اليأس فيهما مما جعلاهما يركنان هذا الأمل على أهميته جانبا ويمارسان الحياة مثلما يشتهيان ويريدان على الرغم من الذي يحدث في البلد فقد تطورت الاوضاع بسرعة الى اقتتال في عدة مدن وفي ضواحي المدينة التى يسكناها. في هذه الفترة تفاجئا بعلامات الحمل من جديد. تحسرت وودت لو تصيح في وجه الكون. لكنها لم تتفوه بكلمة. تنهدت وفي هذه الثواني تملكتها قوة شديدة الوطأة تدفعها الى الانتحار. في جزء الثانية هذا تأملت الطفل الذي لم يزل غارقاً في النوم بوجه أبيض كما الشمع. مذ وضعته في ذاك الليل المشؤوم وهي حين تنظره تأخذها حاجتها الى الندب والنواح وتسأل الله ذو العرش المكين عن ما أقترفت من ذنب ليكون طفلها الأول وبهذا الشكل المشوه. : أستغفر الله من كل ذنب عظيم. كان الذي يجول في أحشائها في ذاك الوقت يحعلها غير مطمئنة وفي خوف من الولادة. وهما ينتظران، كانا يقضيان الليل في الهم والغم من وحع النار والدم المراق في كل دقيقة من أجساد الناس. : هل نعيش لنرا السلام، سناء. أما الوليد القادم بأذنه تعالى سوف يكون هنا بيننا خلال أيام. كانت تسكت ولا تجيب، ثمة شيء في داخلها يقلقها وينبأها بأن القادم ليس هو المرجو أي وهي إذ تتذكرالآن أضطرابها، الوليد؛ الطفل المنتظر لن يكون سليم، أستنتاجها هذا، من طبيعة حركاته وهو لم يزل في بطنها. : أذهب وقل لزينب أن تأتي، أعتقد أن المخاض قد جاء الآن، أسرع. كانت ليلة من ليالي الشتاء شديدة البرودة. في الشوارع القريبة، كان الرصاص يزيد ويراكم الاحزان والنواح ويدفع الكثير من قوافل الناس الهاربين من أتون النار. صرخ الوليد حال ما خرج من خانق الظلام في البطن المرتعد هلعا من الأزيز الذي ينشر الدمار في المحيط القريب من المشفى. صاحت الممرضة بنبرة ألم في وجه زينب: يبدوا أن رائحة البارود، ضخت القوة في الطلق. زينب لم تجب يعلو وجهها مسحة حزن وقلق. تأملت الوجوه وهي متعبة. تأكدت أن زينب مضطربة وخائفة فدوي مساقط القذائف في منطقتهما، : أذهبِ. ترددت زينب. تنازعتها رغبتان؛ الذهاب الى المنطقة ومعرفة ماحدث وتطفيء نار القلق والخوف أو البقاء لمساعدة جارتها وصديقتها، لذا كانت نظراتها تتحرك على مساحة التردد بين قرارين. سناء ومن جسدها الواهن وبعد تأكدها من حيرة صديقتها، عاندت حاجتها إليها، : قلت لك أذهبِ يا أختي، إياد معي. تتذكر الآن كيف كان يحوم حول سريرها في المشفى بعد مغادرة جارتها وصديقتها، ويقوم مقام الممرضة حين تخلي المكان وتنسحب. كانت المعارك تدور قريبا من المشفى. يدردم بكلام هو اقرب الى الهمس لكنها تصيخ السمع أليه وتسمع بوضوح: البيت....في اليوم الثاني أخرجوهما من المشفى. لاسيارة في الطريق. الطريق فارغ من البشر. وصوت الرصاص يلعلع من اتجاهين متعاكسين. يغذا السير والرضيع يبغك في لفته. احتميا من الرصاص بجدر المباني على الطريق. عندما وصلا، ابصرا زينب تندب وتنوح امام ركام البيتين والبيوت الاخرى. التفت الى زوجها وهي تختنق بالبكاء؛ وقعت نظراتها على الفراغ. اندهشت وكادت تخر الى الارض التى رأت فوقها زوجها راقد عليها والدم يشخب من هامته فقد ضربته رصاصة في رأسه وسقط على الارض وهي لم تنتبه له. نهضت من على المصطبة وهي تمسح الدموع من على خديها. أخذت تجر خطوات الجوع على وجه الرصيف المجمر بفعل مساقط شمس آب، بخفين تأكلا من الكعبين. تلسعهما السخونة وتصبر. فز الطفل عندما دفعت آهة الهم من صدرها الى الهواء الحار، ومن ثم عاد الى النوم منهوك الجسد. تأففت ومسحت الدمع مرة آخرى من على وجهها والذي ما أنفك يتدفق من مقلتيها. وقفت ملتصقة بالواجهة الزجاجية للمقهى والمفتوحة بكامل سعتها على الطريق، في زاوية، لا يبصراها، الجالسون في المقهى. تنظر بلوعة وعيونها تائهة لاتستقرعلى شيء. وصوت التلفاز يعبر إليها. المدينة غريبة والحر شديد.الطفل بكى. لسانها؛ كبله الحياء في حلقها. الناس والشارع والمقهى والمحلات، ميدان قتال. بسملت وحوقلت ومن ثم استترت بالصمت. عاط الطفل، أرتفع العياط. تذكرت تنويمة أمها وهي تنعي على رأسها في ذاك الزمن البعيد، ارادت أغماض عينيه حتى يعود الى السكوت والنوم، وكي تتوقف مخارز نشيجه في جرح قلبها : دلول يا الولد يا أبني؛ عدوك عليل وساكن الجول. تململ الطفل على تنويمتها التى بكت بها على الفجيعة. : أبوك مات؛ زوجي وحبيبي مات. لم يبق في الارض ظل، استظل به، أنا وطفلي هذا الجائع والمشوه كما أنا من صهيد الحر والجوع. البيت تحول الى اطلال في وطن ضاع بين متاريس المجنزرات. طفلها نام مرة آخرى في حضن الجوع. الحياء والكرامة جداران حديديان.المقهى تصطخب بالفوضى ومما يكثف الفوضى الصوت المرتفع للتلفاز المقهى. سقيفة القصدير فوقها، مرجل نار. عيونها تفتش عن مكان تحتمي فيه من سخونة الريح. ينز العرق من جلدها. سالت خطوط ماء تحت ثيابها. صوت خطيب ضج بالصراخ: آن للامة العربية أن تتوحد..أقتربت أكثرمن بوابة المقهى للأبتعاد عن لفح الهواء. دارت الارض، دورتها. هل الارض دارت أم هي التى دارت. تحرك وجه الزجاج لواجهة المقهى. زمجر الطريق وادلهم. آخر ما سمعت؛ صدى صوت الخطيب: أحيي الرؤساء والملوك والامراء العرب في هذا المؤتمر الذي انعقد في منتجع البحر الميت، والذين سوف يغادرون بعد.. ورجع صدى، لطفلها الذي بغك، بغكة مختنقة، مع صوت أرتطام الجسد الذي سقط على سطح الرصيف. ركض الصياح في درب الدماغ. تزاحم وتدافع وانفجر الرأس. يكثر اللغط في دائرة تضيق ويطفر الهواء. تسمع طفلها ينوح. تختنق وتشهق. تصحو قليلا وتنظر الى الناس. حجابها وثيابها بللهما الماء. تلمست طفلها بكفها الحانية. من تلفاز المقهى الذي فرغ من الزبائن سمعت صوت الخطيب يقول: أما الآن فسوف أتلو البيان الختامي لمؤتمر القمة العربي.. صرفت على اسنانها واصطخب داخلها بهياج شديد. تواصل صراخ الطفل، مرعوبا. : هل بالفعل الطفل يصرخ أم أن الصراخ قد تراءى لها.دائخة هي من قوة السقطة والجوع. : أين أبني. ظل صوتها في حلقها ولم يخرج. أستاذة سهاد تبكي على مقربة من رأسها والطفل في حضنها. وتنشج بنشيج مسموع. لزوجة وبلل في حجابها. ألم في رأسها الذي لم يزل يتوسد الرصيف. مثل حلم في لوح الخيال، سمعت:
- سناء، ما الذي جاء بك؟!.
- لاجئة سورية
كان القائل من بين الحشد الذي تجمع من زبائن المقهى في لحظة سقوطها بالاضافة الى المارة الذين صادف مرورهم في تلك الثانية. ارتفع كلام الناس الذين شكلو دائرة حولها. اختلطت مخارج الكلمات مع بعضها البعض حتى باتت لا تميز معاني الجمل. في الثانية الثانية عاد إليها بعزم منها تركيزها الذهني. لذا اتضحت معاني الجمل: حسبي الله ونعم الوكيل. اللعنة على المجرمين والقتلة المأجورين. الله ينتقم من كان سبب هذا الدمار. اعتدلت، جالسة وهي تنظر برعب وحزن وخوف الى الناس وسهاد وطفلها الذي في حضن أستاذتها، لايزال غارقا في دمه. تحاضنتا في بكاء مؤلم، أبكى الناس. لم يدم الأمر طويلا ما هي ألا دقيقتان او أقل وتقدم الدكتور فائق وقال: تعالا، لندفن الطفل.. وأشار الى سيارتهما القريبة. أذ تركاها قبل دقائق ونزلا بسرعة، من غير، حتى أن يطفىء المحرك..

هناك تعليق واحد: