أبحث عن موضوع

الجمعة، 15 أبريل 2016

قراءة في ديوان "حين يهدأ الصمت" للشاعر عباس باني المالكي............. بقلم : الناقد د. مصطفى الشاوي // المغرب

                   




يحظى الشاعر عباس باني المالكي بمكانة أثيرة بين الشعراء العراقيين، لما يتميز به شعره من عمق ورصانة وتأمل وتوقع، مقارنة بما هو سائد. وقد اختير الشاعر إلى جانب ست شعراء عراقيين ضمن ما سمي ب"جماعة وثيقة في الهواء" و هي حركة مناهضة ورافضة للسائد الشعري المبتذل، و حركة تمثل أحدث تفريعات الشعرية العراقية، وتسعى لطرح البديل الرافض للواقع الثقافي الراهن.
كما اختيرت للشاعر عباس باني المالكي ثلاث قصائد شعرية ضمن أضخم أنطولوجيا للشعر العربي المعاصر صدرت باللغة الإنجليزية وتحمل إسم "قلائد الذهب الشعرية" احتوت على 420 قصيدة من مختلف البلدان ومن أجيال مختلفة لأشهر الشعراء العرب التي من المتوقع ترجمتها إلى عدة لغات أجنبية.
بين أيدينا ديوان للشاعر يحمل عنوان "حين يهدا الصمت" الصادر سنة 2008 عن دار الكتب، ديوان يتصفحه القارئ ليقف عند جملة مؤشرات يوظفها الغلاف تساعده على بناء وتأسيس توقع افتراضي يتخذه القارئ منطلقا ليشيد من خلاله وفي مستهل قراءته أهم الأسئلة التي تطرحها قراءة الإضمامة الشعرية على مستويات مختلفة. من ذلك مثلا اللون الأسود، الذي يخيم على الغلاف، وهو لون مرادف لليل الذي قد يوحي بالتأمل والتفكر والتدبر والرفض والغضب والمعاناة، وقد يؤشر على الكتابة باعتبارها سوداء تقتحم غياهب النفس وأغوارها المظلمة، وباعتبار السواد نطقا والبياض صمتا، بيد أن سواد الكتابة يأخذ معناه في ضوء البياض فإذا كان سواد الليل يدعو إلى التأمل لانتشار السكينة ولعموم الصمت فإن عنوان المجموعة الشعرية يجعل الصمت يهدأ ليصبح صمتا من نوع خاص وليعمق الإنزياح في متوالية العنوان، فالصمت هدوء أصلا، وهدوء الصمت صمت مضاعف، وحين يهدأ الصمت تتجلى شعرية المخبوء، عن طريق التأمل العميق، والتفكر الرصين، والاستبطان الذاتي، حيث تكشف الرؤيا عن تجليات حقائق الذات الشاعرة، وعن عوالمها الخفية.
تهتك اللوحة التشكيلية صمت فضاء سواد الغلاف وتكشف عن بعض تجليات الرؤيا الفكرية والفنية والجمالية التي من المفترض أن تبلورها نصوص الديوان، الثمانية والعشرون، حيث يتراءى جسد رجل، واقفا مجرد الثياب، ملامحه غير واضحة، يمتطي زورقا. وفي أعلى اللوحة ورقة شجر التوت وأشكال هندسية توحي بأن اللوحة متشظية في حاجة إلى إعادة التشكيل كما هو شأن النصوص الشعرية وكما هو الواقع المرفوض الذي ترتضي نصوص الديوان غيره بديلا وتتوق الذات إلى معانقته بوسائط مختلفة، فاللوحة توظف عدة رموز(المركب، الرجل المجرد، ورقة شجر التوت، شظايا مرآة، باب مشرع..) كل هذه العناصر التي تبدو صامتة تنم عن الرؤيا التي قد يعكسها الديوان بأبعادها الفكرية المختلفة.
وبناءا على هذه الإشارات سنعمد، في هذه القراءة، إلى رصد تجليات الرؤيا الفنية من حيث علاقتها بالتجربة الذاتية للشاعر وباللحظات التي تعيشها، أهمها؛ لحظة الصمت
ولحظة السفر ولحظة الحلم، بأبعادها الدلالية والإيحائية والرمزية التي تبلورها نصوص الديوان في العلاقة الجدلية بين عالم الذات وعالم الواقع وعالم الآخر.
1- عالم الذات :
تجسد الذات الشاعرة وعيا عميقا بما يدور حولها من أحداث، ذات تصدر عن رؤيا فلسفية للوجود وتمتلك القدرة والجرأة على تفسير كل ما يجري حولها، وهي لا تشخص هذا الواقع كما هو كائن فحسب وإنما تستوعبه ثم تتجاوزه كي تسعى إلى تحويله إلى عالم بديل عالم الحلم بكل تجليات وتمظهراته، .
لذا فإن استعمال الشاعر لضمير المتكلم لا يعني مطلقا أن النصوص الشعرية للديوان تصدر عن رؤية عاطفية أو ذاتية عابرة، كما ينسحب ذلك على كثير من التجارب الشعرية الحديثة، بقدر ما يصدر الشاعر عباس باني المالكي عن وعي فكري عميق يستوعب مفارقات العالم من حوله، وفق منظور نقدي عميق لواقع مختل ( حروب، فقر، غدر، كراهية، ضغائن،...) واقع يتبرأ منه الشاعر ويعلن عدم انتسابه له ويبتغي غيره بديلا؛ أنا ليس من هذا العالم/ كي أنتحر/ أنت لحظة/ أبحث عنها/ سأكون لك أبدا/ حتى لو كنت/ لي حلما لا أعرفه "مطر الانتظار" ص59. وهكذا تتبلور الرؤيا استنادا إلى حالات تنخرط فيها الذات بوعي منها، من أجل إعادة ترتيب أوراق الواقع وفق ما ينبغي أن يكون والقبض على الحقيقة لإعادة تشكيل هذا العالم من جديد.
ويسند الشاعر ضمير المتكلم في الغالب لعناصر ومخلوقات كونية وينطق بلسان حالها على سبيل المجاز إذ يحصل نوع من الإبدال والحلول بين الذات والماء، يقول الشاعر: أنا الماء، "أسرة الكف" ص 71 ، وبين الذات والبحر يقول أيضا: أنا البحر، "هروب من التهمة" ص 113، فإذا كان الماء رمز الحياة فإن البحر رمز العطاء يوحي بأشياء كثيرة ومتناقضة من قبيل السكون والغضب، وتختزل الذات الشاعرة كينونتها في قولها؛ أنا لحظة طين، "قيامة الماء" ص 109، وهكذا، فإذا كان الطين يحيل على أصل الإنسان فإن الشاعر يختزل زمن وجوده في لحظة، ولنا أن نلاحظ جمالية الملفوظ الشعري وعمقه التصويري، وفي حسن تركيب الطرف الثاني من الصورة (لحظة طين) لنستشف دقة التصوير اللغوي وعمقه. ويستمر الشاعر في الكشف عن الذات التي تشكل جزءا من الكل إذ لا نشاز ولا تنافر بين الذات والهواء بين الذات والعالم بين الذات والله، يقول الشاعر:
أنا جزء من وجهي وجهي جزء من الهواء الهواء جزء من العالم العالم جزء من الله "المغادرة" ص 88
هكذا يحصل نوع من الانصهار والتوحد والتكامل بين الذات والوجه وبين الوجه والهواء وبين الهواء والعالم وبين العالم والله. في وحدة وجود الكائنات التي تجعل الذات تتراءى في كل المخلوقات التي خلقها الله عز وجل لأنها ذات نبيلة متعالية عن نقائص الواقع الذي ترفضه لأنه لا يحقق أحلامها ورؤاها البعيدة. فهل بعد هذا يستطيع القارئ أن يدعي بأن الرؤيا الشعرية ذاتية أوعاطفية معتمدا في ذلك على بعض المؤشرات اللسانية وبعض الموضوعات المستحضرة في الديوان، وخاصة موضوع الحبيب ؟ لا شك أن قارئ الديوان يهتدي إلى أن الشاعر يتناول موضوع الحبيب كتعويض عن الإحساس باليأس نحو واقع منفك متخم بالحروب والمآسي والخيبات.
2- عالم الحــلم:
يجسد الحلم الواقع الآخر الذي يرتضيه الشاعر والذي يظل دوما حلما قصي التحقيق، فتغدو الحياة بماضيها وحاضرها ومستشرفها حلما تسعى الذات الشاعرة إلى أن تعيشه، ولو على سبيل التذكر، ذات لا تعيش حاضرها، ولا يد لها فيما يحصل، بل إنها عاجزة أمام واقع مختل تتبرأ منه عن وعي، وتعيش الهامش والإقصاء خارج الزمن والتاريخ. وتسكن الأحلام الشاعر فيصبح مهووسا بها وبما ينبغي أن يكون فتغدو الذات في حالة عجز مطلق رغم إقرار الشاعر المبدئي برجولته، لكن الأحلام تسرق حاضره، والماضي يكبله، و ينفلت الحاضر عن زمنه الآني ليصبح ماضيا في عالم الروح يبحث عن لغة السديم :
أنا رجل تسرقه الأحلام لا أخذ إلا ما مضى وأمضي وحين أبحث عن ما فيَ أجده قد مضى إلى حلم تركته في ليل دون غطاء يبحث عن لغة السديم في روحي "طرق التعلم"ص13
تتراءى للشاعر بعض تجليات الرؤيا من خلال تأمله في سيرورة الحياة، ففي قصيدة "تجليات" يقيم الشاعر توليفا محكما بين عنصرين أساسين في القصيدة الأنهار والبحر، حيث ترمز الأنهار إلى سيرورة الزمن التي تستحضر وتؤرخ كل شيء من البداية إلى النهاية، إذ أن الأنهار التي يرمز بها الشاعر إلى الحياة تحمل معها كل ما تجده في طريقها ولا تستثني شيئا، صغيرا كان أو كبيرا، كسجل التاريخ الذي يحصي كل الأحداث التي يعيشها الواقع وتمر على نهر الزمن. الأنهار تؤرخ الحياة حتى انتحار الحيتان على أقدام مدن مائية غسلت مواسمها بالمياه الآسنة يرمي البحر أسنانه على الشاطئ ليقضم عفونة الأنين من أرصفتها المبتلة بالخرافة والتعاويذ "تجليات" ص: 7-8
وهكذا فإذا كانت الأنهار في تصور الشاعر تقبل كل شيء عندما تؤرخ للحياة في جزئياتها فإن البحر لا يقبل كل ما تحمله الأنهار إنما يلقي بزبد غير النافع إلى الهامش، يلقي عفونة الأنين والمبتذل من الخرافات والتعاويذ، وما لا ينفع الناس. ولنا أن نلاحظ كيف يصور الشاعر البحر وقد نبتت له أسنان وكأنه وحش بحري يلتهم كل ما لا ينفع يقضم عفونة الأنين ويلقي بالخرافات والتعاويذ وبزبد غير النافع إلى الشاطئ. ووحدها الموسيقى لا تخذل الروح عندما تنفتح أبواب الحلم في زمن القمع والغصب والقهر.
4- عالم الصمـــت:
الصمت حالة وجودية يعيشها الشاعر لها في الديوان تمظهرات دلالية كثيرة إذ يطرد استعمال اللفظة (التي تتكرر ست عشر مرة في الديوان) بمشتقاتها المتعددة وبمرادفاتها المختلفة، وما حضورها في العنوان إلا دليل على إشعاعها الدلالي المشبع بالإيحاء والرؤى علاقة بالبوح الشعري الذي يروم التلميح والتشفير والترميز والسؤال بدل التصريح ؛ في قصيدة "سفر العاصفة" تحضر الذات الشاعرة بقوة عزم راغبة في أن تجد النهاية وتتعرف على الحقيقة وتضع حدا للتردد الذي يثبط الإرادة رغبة في تجاوز العجز والتواكل والفشل؛
ويستمر الشاعر في إبراز صور التواكل والتشبث بالغيبيات، وبدل الأخذ بالأسباب الشاخصة لتغيير الوضع وإعادة ترتيب العالم من جديد تراه صامتا يبحث عن آلهة في خرائب المجرات: الحياة لم تعد تجيء وأنا متوقف كعصفور نسي ذاكرته على أشجار الغروب
صامت يبحث في خرائط المجرات عن بوصلة زمن الغيب لعله يجد آلهة تعيد ترتب العالم من جديد قبل أن يطرق الموت أبواب الماء "سفر العاصفة" ص28 في قصيدة "النبي" يترفع الشاعر عن الآخرين الذين يرضون بالحياة في مدن الواقع التي تعمها الثرثرة، أي مدن لا حياة فيها ميتة خربة يباب، ويوم يأتي النهار تغيب عن ذاكرة أهلها، بينما يبحث الشاعر عن مدن مثالية لا وجود لها في الواقع مدن مترفة بالصمت هناك يحقق الشاعر حلمه ويؤسس لرؤاه الخالدة ويتطهر من خطاياه التي علقت به منذ صباحات البدء ويولد ولادة جديدة ويندم على ما اقترفت يمناه من قبل، ويخرج من أناه ليصبح ناطقا بضمير داخلي جمعي، يقول في قصية "النبي" :
أنتم تبحثون/ عن مدن/ غابت عن ذاكرتكم/ يوم جاء النهار/ يشتكي عطش الثرثرة/ وأنا أبحث عن مدن/ مترفة بالصمت/ أعلق رؤاي على زمن/ غادرني دون أطراف/ جاء بيَ/ من رحم ولادتي/ غاسلا رئتي بلون القمر/ لأتناسل في رحم الهواء/ وأشم رائحة جثة هابيل/ قادمة من صباحات البدء/ فأرمي الأنثى الأولى/ ببرتقال الندم قبل أن تقطع/ رغبتها/ من فاكهة التفاح. "النبي"ص33-34
هاهنا تضمين محكم لقصة آدم ولخطيئة قابيل في القرآن الكريم لكن الشاعر يعمد إلى تحويرها لتنسجم مع رؤياه الفنية، فالشاعر لا يريد السقوط في الخطإ كما سقط أبونا آدم وأمنا حواء، في العالم العلوي، إذ أخرجهما الله من الجنة، فقال لهم الله تعالى "اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين" كما لا يريد أن يسقط في خطإ العالم السفلي الذي يرمز إليه بحدث قتل قابيل لهابيل، إنما يريد الشاعر أن يتطهر ويسمو ويرقى إلى عالم الروح متلافيا أخطاء البشرية، وحينذاك تقر عينه ويخلد؛ في وقت يعد العالم/ حروبه مع الغروب.
وفي سبيل كل هذا وذاك تعيش الذات حالة سفر مستمرة بحثا عن الحقيقة الصامتة عبر عوالم الشعر الرؤيوية، مما يتطلب من الذات حركة دؤوبة ومتواصلة للقبض على المنفلت حتى النهاية، فإذا كان السفر، مثلا، يسفر عن المستور من الأشياء فإن السفر في قصيدة "أسفار" لا يعني الإنتقال بين مكانين في زمن ما بل يعني أبعد من ذلك عندما يصبح سفرا داخل فضاء الزمن خارج الإطار المألوف والمتعارف عليه؛
سافر إلى عودته.../ مع همسات الحنين/ هطلت في روحه/ موسيقى/ أعمق من العاصفة/ أعمق من البحر/ بكى منتشيا..،/ تاركا أسئلة ذبوله/ على أيقونة الخلق. "أسفار"ص25
خاتمـة: وأخيرا يلاحظ القارئ الانسجام التام بين ثلاثة جوانب أساسية ومتداخلة في الكتابة الشعرية عند الشاعر عباس باني المالكي، الجانب الفكري، والجانب الفني، والجانب الجمالي، بحيث لا نشاز بين هذه العناصر المكونة لهذه المجالات أو غيرها ويكفي أن يلاحظ القارئ كيف تكسر النصوص الشعرية في الديوان بنية الجملة الشعرية عندما يوزعها الشاعر بين سطرين شعريين أو أكثر ليؤشر من خلالها على انشطار العالم من حوله، كما تأتي بعض مقاطع القصائد عند الشاعر عباس باني المالكي على شكل ومضات شعرية سريعة، معتمدة التكثيف العميق،مثال ذلك قوله:
أودعك بفرح/ لأجمع حزني الصاخب/ من رفوف الروح "عشب النسيان" ص118
تصدر قصائد ديوان الشاعر عباس باني المالكي، إذن، عن رؤيا استبصارية مركبة تستمد جذورها وشرعيتها من الواقع المختل الذي تستوعبه الذات الشاعرة وتحلله، وتتجاوزه إلى عالم بديل، يولد من خلال استبطانها للوعي الناضج، وتجاوزها للوعي الزائف، عبر الانصهار الكلي مع عوالم الطبيعة والمحيط والكون تلك التي تحل بها الذات الشاعرة فتكشف لها عن حقائق خالدة تتخذها عالما خاصا عالم الصمت والحلم والتجلي.. لتمارس فيه لعبة الكشف الاستبصار .
* - عنوان القراءة التي تمت المشاركة بها بمكناس بمناسبة احفاء"جمعية الأفق التربوي" بالشاعر العراقي عباس باني المالكي تحت شعار " الشعر نبض الحياة " يوم 16 أبريل 2012 بغرفة الصناعة والتجارة والخدمات بشراكة مع أكاديمية التربية والتكوين لجهة مكناس تافيلالت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق