أبحث عن موضوع

الأربعاء، 14 يناير 2015

سيرة ....... وطن بالتنور بقلم ............ بقلم الناقد : .سعد عودة /// العراق




    بالضبط في مرحلة المتوسطة تشكلت لي مع الورق علاقة خاصة ,في ذلك الوقت كان يصعب علي الحصول على كتاب ما ,فقط استطيع شراء مجلة (الف باء) لكن الشارع كان يمنحني كما مذهلا من بقايا المجلات والكتب..مجلة الوطن العربي والحوادث ,العربي الكويتية ,اجزاء من روايات لأغاثا كريستي او نجيب محفوظ ,كل هذه كنت اراها مرمية في الشارع احملها وأنظفها ثم احاول قراءتها ,كنت احتفظ بكل شئ حتى الذي لا أحتمل قراءته .
    في ذلك الوقت كان للوطن في داخلي معنى واحد ,الوطن هو الرئيس القائد والشباب الذين يحلمون بالهروب من هذا الرئيس او هذا الوطن الذي يمنحهم موتا مجانيا ملفوفا بالعلم العراقي , كانت عيون القائد تضئ في كل نجمة من نجومه...نفس هؤلاء الشباب كانوا يدافعون عن هذا الوطن من فكر يؤمنون به ويعشقونه ,كنت اراهم هكذا يقدسون العمامة الإيرانية التي يقاتلونها...
    في احدى الأيام عثرت على بقايا مجلة اجنبية في داخلها صورة مميزة لفتاة عارية تغطي صدرها وعورتها بكأسي ويسكي ,صور اخرى لأطفال يحملون بالونات ملونة وساحات خضراء ,ساعات جميلة وكاميرات تتمنى ان تلامسها أصابعك ,حاولت ان اترجم ما كتب بهذه المجلة لكنها كانت كتبت بلغة اخرى غير الانكليزية..فكرت كثيرا برئيس الدولة الذي أصدرت هذه المجلة لابد ان يكون شعره اصفرا وعينيه زرقاوين, يحمل جسدا ناصع البياض يتعامل بهدوء ورومانسية مع كل الأشياء التي حوله,,,
    كانت المسافة من المدرسة للبيت تمنحني زمنا مذهلا للحلم احقق فيه كل ما فاتني في ذلك اليوم اقول ما لم استطع ان اقوله وافعل ما كنت انوي فعله اصل الى البيت اكون قد انهيت في رأسي كل معاركي وكل لقاءاتي التي لم يحملها الواقع,وبينما انا التهم الحلم عثرت بالقرب من الباب الخارجي لأحد البيوت الحديثة البناء على مجموعة من الكتب والأوراق والدفاتر من فئة 30 ورقة, وبسرعة مذهلة ودون ان ينتبه اليّ احد دسست الكتب والدفاتر في حقيبتي وأسرعت الى البيت.فتحت الحقيبة ونثرت الكتب على الأرض ,رواية بدون غلاف اكتشفت بعد سنوات انها رواية (النزلاء) لحميد المختار رواية لحنا مينا عرفت بعد سنوات انها رواية (الثلج يأتي من النافذة) وديوان شعر من الواضح ان شخصا ما مزقه الى نصفين خالعا غلافه الأحمر ,,الصقت الديوان مرة اخرى وأنا اتسائل لماذا مُزق بهذا الشكل ,,بعد فترة ومن خلال اصدقائي في المدرسة عرفت ان احد ابناء البيت الذي عثرت ببابها على هذه الكتب قد قُتل في الحرب ,اعتقد ان اهله لم يتحملوا رؤية كُتبه امامهم فبعثروها بعد ان مزقوها وهم في حالة من الوجع والبكاء ,انا تصورت ذلك حينها,,
    الديوان الأحمر الذي كان يحمل اوراقا من القطع الصغير يحمل اسم شاعر كنت قد سمعت به ..مرة او مرتين (محمود درويش) ..ضحكت وأنا اقرأ ان هذا الشاعر مشرد وبلا وطن..قلت في نفسي
    - هنيئا له...هذا بلا رئيس قائد
    لكنني وجدت بعدها شيئا غريبا في احدى الدفاتر ,كان هذا الشاب الذي قتل في الحرب قد وضع تعليقاته على مقاطع من الديوان,,وبذهول غريب بدأت اكتشف عالما اخرا ,وطنا اخرا ,لم اكن اراه طوال هذا الوقت
    (فلماذا قاوموها
    حين قالت ..
    أن شيئا غير هذا الماء يجري في النهر)
    ما هذا الذي كان يجري في النهر غير الماء ,انها ارواحنا التي لامست الأشجار وتحسست طعم هذه الأرض...انها احلامنا بنهر يحمل ضحكات الأطفال وبريق عيون النساء
    اصابني الذهول وأنا استمر في قراءة التعليقات واكتشف للمرة الأولى ان هناك عالما بقربي كانت الحرب والرئيس القائد قد غطوه بعشرات الأقنعة
    لا أعرف كم مرة قرأت هذا الدفتر بعدها رميت الدفتر وبدأت بقراءة الديوان ..
    (واشرب مرة اخرى
    بقايا ظلك الممتد في بدني
    وأؤمن ان شباكا
    صغيرا كان في وطني
    يناديني ويعرفني
    ويحميني من الأمطار والزمن)

    بينما يتسلل الدفء الى جسدي ممدا على بساط في سطح البيت كانت امي تضع الخبز في التنور الطيني لينثر في الهواء رائحة تحتل الذاكرة
    - ها يمه اسويلك حنونه
    - أي يمه
    استمر هكذا ممدا على ذلك البساط حتى مغيب الشمس وأنا احاول ان اصنع وطنا من كلمات ...ولماذا من كلمات..؟ هناك وطن موجود كل ما عليّ فعله ان اعثر على وسيلة ما توصلني لهذا الوطن
    كانت ينتشر في سطح الدار كمية من خشب صناديق الشاي الذي كنت احملها من محلات المنطقة تستعملها امي في اشعال ألتنور سحبت واحدة من الأخشاب وبدأت استخرج المسامير ا التي يتركها الخشب بعد ان يحترق داخل التنور,أخذت كمية من الأخشاب وبدأت اصنع وطنا على شكل نافذة ,صعدت على (بيتونة) البيت ونظرت من خلال النافذة الى الخارج حينها تغير كل شئ ,روح غريبة تسللت الى الشارع والأشجار ,الى بنات الجيران والطابوق العاري (واريليات) التلفزيونات
    ها انا احصل على وطن رائع ,وطن يتسلل الى داخلي مثل اشعة الشمس التي تمنحني ألقا وروحا تحولني الى مولود جديد يلمس اصابع امه للمرة الأولى,,,
    في اليوم التالي وحالما رجعت من المدرسة صعدت على السطح كانت امي قد بدأت في اشعال التنور,بحثت عن وطني بين كم الخشب المنتشرة على ألسطح اخيرا عثرت عليه وهو يشتعل داخل التنور كانت النيران تلتهم شوارعه وبنياته ,اشجاره ونهره ,تاريخه ومستقبله ,أحسست بقهر غريب كنت اريد ان اصرخ بوجه امي لكنني ذهبت ورميت بنفسي على البساط
    - يمه اليوم سويتلك خبز عروك
    - ما أريد
    - اشعجب؟
    - مو جوعان
    حالما انتهت امي من صناعة الخبز حملت صينية الخبز على رأسها ونزلتْ عن ألسطح ركضتُ بسرعة الى التنور وبدأتُ استخرج المسامير التي اختلطت برماد الأخشاب وبقايا جمرات مشتعلة تلسعني وأنا احاول اصطياد المسامير الحارة من بين قطع الجمر ,حالما احصل على مسمار ارفعه وأحوله بسرعة من يد لأخرى كي اتجنب الم حرارته , وضعت المسامير على الأرض وجمعت كمية من الخشب وبدأت ببناء وطن جديد .

    هامش
    .......
    حنونة: قرص صغير من الخبز تخبزه الام لصغارها
    بيتونة: بناء صغير مستطيل الشكل يبرز من سطح البيت يغطي السلم الرئيسي للبيت
    خبز عروك:خليط من العجين واللحم المقطع قطع صغيرة مع البصل والكرفس و البهارات يخبز بالتنور الطيني على شكل قرص دائري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق