أبحث عن موضوع

السبت، 4 يوليو 2020

قراءة في ديوان ( سعف السراب ) للأديب الشاعر السوري : مصطفى الحاج حسين .......... بقلم : الأستاذة غزلان شرفي





قالوا قديما : ( الإبداع هو أن يخرج الإنسان من وحل الفشل إلى إنسان يُضرب به المثل) ، والأستاذ مصطفى الحاج حسين خير مثال ، وأحسن قدوة يُحتذى بها في مجابهة صعوبات الحياة ، و مثبطات العيش ... فمن الانسحاب من مقاعد الدراسة في سن مبكرة إلى التربع على عرش التميز والفصاحة والتمكن : شعرا ونثرا ، وهذا لا يختلف عليه اثنان ممن خبروا دهاليز كتاباته ، وتذوقوا جمالية مداده .

لطالما كانت لغة الشعر حالمة، محلقة في الخيال، جانحة للانفصال عن الحقيقة، لكنها مع ذ. مصطفى مشدودة إلى الواقع المر ، كونه اهتم بالجانب الراصد لهموم بلده ، وهواجس ذاته ، المنغمسة في بحر لجي ، لا قرار له ولا شاطئ ، زادت الغربة من تعميق جراحاته ، فجاءت قوافل حروفه تقودها نار الوجد ، وتظللها سماء الحنين في صحارى الفقد ... وستظل هاته الجراح تلهم شاعرنا للبوح الصافي بمكنونات القلب المنفطر ، والروح الثكلى ، مادام يعيش حالة من الامتداد في الزمن ، والتمدد في المكان ، بين إسطنبول وحلب .... هذا الحبل السري الذي لم ينقطع بعد رغم أن رحم الأم ( حلب) لفظه ( قسرا) خارجه، فلا زال يتغذى بآهاتها ، ويرتوي من وديان دمائها ، وما أشبع نهمه ، ولا أطفأ عطشه ... فالحنين يشاركه صحنه ، والشوق ينهل من مورده .... ليبقى دوما في حالة تعطش ورغبة لا تنتهيان .....

وأنا أتجول بين مروج الديوان ، وأتنقل من قصيد لآخر ، استشعرت طعم المرارة والخذلان اللذين عبر عنهما الشاعر بأبلغ بيان ، إذ تُحسه جزءً لا يتجزأ من خارطة الوطن الذي أحاطته عيون الإخوة بنظرات التنكر ، عوض المساندة والمؤازرة ، فكانت الخيانة مزدوجة ، داخليا وخارجيا ، الكل فيها سواء ، من جار أو صديق ، وقد أفرد الشاعر أكثر من نص في هذا الموضوع .....

لكل نبضة شعر في هذا الديوان نٓفٓس من أنفاس الشاعر ، يؤرخ للحظات ألم اكتنفت مشوار حياته، فحاول ترجمتها حروفا علّها تخفف من لظى ناره ..... فمن رحم المحنة ، كانت منحة الإبداع والتميز التي طبعت كتابات شاعرنا الحصيف ، الذي امتلك نواصي التعبير ، وطوّع القلم بكل تيسير ، فما كان حلمه سرابا ، ولا أمله يبابا ...... فها هو اليوم يؤسس لتيار شعري مميز ، يحتل مكانة وسطا بين الوجداني والملحمي في تزاوج رائق ؛ فالشاعر لم ينفصل ولو للحظة عن هموم وطنه ، ولا عن انشغالات بلده ، رغم أنه استشعر العنف ضده ، وضد أمثاله من شعراء السلام .... هذه القسوة التي جعلته يخاصم ذاته في أكثر من موضع ، ويستنجد بما يحيط من عناصر تؤثث المحيط الخارجي قصد مشاركته إحساسه بالتشرد والضياع ، حتى انه جعل للسراب سعفا ، وهل يكون لسراب سعفٌ؟ السعف للنخلة بمعنى الجريد ، وللعروس بمعنى الجهاز ، وللبيت بمعنى الأثاث .... فما يكون بالنسبة للسراب ؟ وهل للسراب وجود من أصله ؟ وهل له كينونة ؟ ....... كل شيء ممكن مع شاعرنا الذي اعتاد تكثيف المعاني ، والنزوح إلى الرمزية دون كثير تعقيد ..... وما اختيار عنوان هذه القصيدة بالذات ، والتي تحتل الرتبة الثانية والخمسين ضمن ستين قصيدة تضمنها الديوان ، جاء اعتباطا ، وإنما كونها تحمل قبسا من نور ، وفجوة من أمل في سلام بعيد المنال ، هذا علاوة على تميزها بصور وانزياحات من الحبكة بمكان لا نملك إلا التماهي مع معانيها إلى أبعد الحدود ....... ذات الأمل تطالعنا به قصيدة( راية الياسمين ) فلا نملك إلا التعاطف مع الشاعر ، وكلنا رغبة في أن تزداد كوة الأمل اتساعا ليعم النور أرجاء الروح المكلومة التي تداوي خيباتها من خلال الصرير المبحوح ليراع سخر مداده لخدمة الهدف المنشود ........ يراع قلم يجود به الزمن ، له من السحر ما يجعل القارئ يمتطي صهوة الجمال ، ويحلق في سموات الأصالة اللفظية والمعاني المتجلية بمنتهى الدلال .... ثم يعود ليبحر في ثراء الانزياحات ، وكثافة المجازات ، فيتسربل بالإبداع في أبهى حلله ، حتى إني لأكاد أجزم أنه الشاعر المعاصر الوحيد الذي أقرأ له ( آلاما ) ( باستمتاع ) ، وأتجرع معه ( المرارة ) ( بتلذذ ) ...... ليس انفصالاعن واقع مر سطرته أنامله المبدعة ، وإنما انغماسا كليا في ديجور طاغ أخاذ ، بحثا معه عن نجوم متفرقة هنا وهناك ....... عساها تنير دواخل شاعرنا ، ودواخلنا كقراء ولو بخيط رفيع من نور ......





فاس : حزيران/يونيو 2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق