أبحث عن موضوع

الأربعاء، 11 مارس 2020

المقـامـــة الحذائيّة................... بقلم : منير صويدي _ تونس






حدّث حنظلة قال:

مالت شمس الأصيل إلى مغربها، وعادت الطيور إلى أوكارها بعد كدّها وتعبها، وهدأت حركة السير في أنحاء المدينة بعد هديرها وصخبها، وفاحت من مطابخ الدّيار روائح الأطعمة الشهيّة تدغدغ أنوف العائدين وتوقظ عصافير بطون المُرْهَقين الذين يُمنّون النفوس بما لذّ وطاب من الثّريد ولحم ضأن غيرسَمين.. .

اجتمع أهل الدار، وطال الانتظار، فرفع المؤذّن الحرج عن المنتظرين، وعَلا صوته بالآذان يدعو المؤمنين لآداء الصلاة في موعدها، والتكـفيــر عن الذّنوب التي وقعوا فيها رغم سعيهم إلى تجنّبها وتلافيها..

خرجت أطلب صلاة الجماعة، وكلّّي سمْع وطاعة.. وصلت إلى المسجد عند التكبير، فتركت الحذاء ناحية الباب الجانبي الصغير، وسارعت إلى الصفّ أصغي لشيخنا الجليل يرتّل آيات تدعو المؤمنين إلى التدبّر وحسن التفكير. فاقشعرّ جسمي تأثرا بصوته المترامي عبر الأثير. وكدت أجهش بالبكاء لحسن القراءة وجوْدة التّرتيل..

أطال الإمام المفدّى الوقوف والركوع والسجود. قلت في نفسي : اللهم خلصنا من هذه المحنة.. يا رحيم.. ياودود.. حتّى كأنّه شعُر بحالي وأنهى أركان الصّلاة وبادر بالتّسليم.. لكنّه أصرّ على الدّعاء والتضرّع لربّ السّماء أن يرحم عباده الضّعفاء.. فقلت متمتما: يا للتّعاسة والهُـراء. وهل ثمّة أكثر من هؤلاء الشيوخ عقابا وابتلاء.. أوَ ليسوا بارعين في إثقال كاهل رواد المساجد بالتفاهة والسّطحية وادّعاء التفقّه في الدّين وهم من ذلك براء..؟ ثمّ استعذت بالكريم المنّان من وساوس الشيطان، وقمت من على ذلك السّجّاد الفارسيّ.. متّجها نحو الباب الجانبي أطلب نعلي للعودة إلى المنزل والاستمتاع بذلك العشاء الشهيّ..

ولكن يا للخيبة والخسران. لقد طاف طائف على أحذية المصلّين. وكنت أنا أحد المتضرّرين. فانتظرتُ إلى حين. ثمّ يئستُ وغادرت المسجد أستشيط غضبا من ذلك السّارق اللّعين الذي لم يخش الله، ولم يخف من دعاء المظلومين..

وبينما كنت في طريقي إلى البيت أمشي الهويْنى حافيا، إذا بكهل رثّ الثياب، أشعث، أغبر يتبختر في مشيته وينتعل حذائي الأسود الذي سُرق من المسجد قبل لحظات.. تأمّلته مليّا ثمّ أمسكته من يمينه وبادرته بالسّؤال: من أين لك هذا الحذاء يا سيّد الرّجال؟ فتلعثم وقال: إنّه هبة من فاعل خير لمسكين هدّه الفقر والتّرحال.. ابتسمت ابتسامة صفراء.. ودفعته بكفّيْ يديّ إلى الوراء، وأرغمته على انتزاع الحذاء.. ثمّ حملقت في تجاعيد وجهه، فإذا هو جارنا عبد الستّار بائع الأحذية المستعملة الذي يقصده كلّ أبناء الحيّ الكبار والصّغار لشراء ما يحلو لهم من الأحذية ذات الجودة العالية والتفاخر بها أمام أصحاب الجاه والأموال الطّائلة.. فقلت والغضب يكويني حتّى يكاد يميتّني ويُرديني:

تاه عقلي في الــفـيـافـي..

واكـتــوَيْـتُ بالظّنــــون..

لم أعُــدْ أفـقــهُ شيْـئــــا..

في الأخلاق ..والفنون..

هل أنا كــائــن خُـرافــي..

أم أصِبْــتُ بالجــنــــون.؟؟.




28 /02 / 2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق