أبحث عن موضوع

الأربعاء، 8 مارس 2017

فـارس النار (قصة قصيرة)................. بقلم : عادل المعموري // العراق


عِبرَ نافذتي الصدئة وزجاجها المفطور ،أرقبُ نجوم السماء تلوح من بعيد ..،نسائم الفجر تدغدغ وجهي الشاحب..لم أنم طوال الليل لوجع مفاصلي وألم (الكانيولا)في معصمي ..تنفست الصعداء وأنا اشاهد آخر قطرات من قنينة الدم وهي تتسرب في اوردتي ..أخرجني أبي من المشفى وعاد بي إلى البيت أرقدني على سريري قرب النافذة ..هوّمت عيناي بالنعاس وانسّل رأسي من رتاج النافذة فوق الوسادة القريبة دون شعور مني ،
الوخزات التي تدب في جلدي بدا يخف سعيرها .. صياح الديكة بدا يمزق صمت القرية ..رفعتُ رأسي شبه مغمض أنظر بعينين مثقلتين نحو صور باهته تلوح أمامي من بعيد ،لم تلبث أن اقتربت ..لاح لي على وجه اليقين أشخاص كثيرون يركضون في كل الجهات ..ثمة أصوات لأطفال ثم تبعها صراخ نسوة
وهمهمة رجال وأصوات لرصاص متقطع.. مع مرور الوقت ازداد ت لعلعة الرصاص لتملأ فضاء القرية ..
الدخان المتصاعد والنار المشتعلة في البيوت حجبا نجوم السماء ..تتسلل إلى أذنيّ أصوات أناس ينادون بالرحيل ..رأيتهم يركضون بلا متاع عبر مسالك القرية هربا من شيء غامض .. فيض الوجع الصاعد من قاع الروح تدفّق كشلال مجنون يجري في أشجار قريتي التي احترقت وتلك البيوت المخبوءة خلف النهر ..من بين دموعي التي تدفقت من عيني ..رأيتهم ..وجوه مستترة خلف لثام أسود ..عيون تتلصص تنظر في كل الاتجاهات ..يرتدون الملابس السود وراياتهم سودٌ أيضا ..ُخيّل إلي أني أشاهد فلما عن الهنود الحمر وهم يؤدون طقوسهم الدينية .
كلما علا الصراخ ..يعلو صوت الرصاص لينغرز في الرؤوس ..ثم تهدا الأصوات ..وتسكن الجثث بهدوء فوق أديم قريتي المنكوبة ..اقتادوا الرجال والنساء والأطفال وغابوا في الظلام ..ماتبقى منهم شرع يكسر الأبواب والشبابيك ويرمي الحطب عبر فتحات الابواب والشرفات ليغذي النار المتوهجة
..الشمس بدت تلوح خلف التلال البعيدة ..صباح جديد يفوح دخانا ورائحة لحم محترق ..أبي وأمي وأختي لم أعثر لهم على أثر ...تركوني ورحلوا دون أن يقولوا لي وداعا ..مايضرهم لو حملوني معهم ..هل سيتعبهم ثقلي وأنا الذي لايزن جسمه اكثر من عشرة كيلوات؟ ..بيتنا هو الوحيد الذي لم يحترق ...لا أعلم لماذا فكرتُ كثيرا بالأمر ولم أهتِد إلى جواب ..المهاجمون لم يقتربوا من بيتنا قط .
بدت حركة أقدام تقترب من عتبة بابنا ..ركل أحدهم ا لباب .. آه لقد وصلوا ..لم أتحرّك من مكاني مكثتُ ساكنا مسندا ظهري على قاعدة السرير ..دخل إلى غرقتي إثنان أحدهما يشبه وجوه الأفغان أو الصين والآخر عراقي لهجته قريبة من منطقتنا ..ابتسم وجلس عند الدكة القريبة من سريري وقال لي :
_ما اسمك ياولد ؟
_مخلف .
_مخلف بن حميد الولهان ..الضابط في الشرطة الإتحادية
_أتعرف أبي؟!
_للاسف هرب مع أمك وأختك الصغيرة ..تركوك هنا لوحدك ..أأنت مريض بالثلاسيميا ؟
_نعم ..بالأمس أخذتُ حصتي من الدم ..زودوني بقنينة دم في المشفى..أنا الآن في حال أفضل .
_لماذا لم تهرب كما هرب أفراد قريتك .الا تخاف منَّا ؟
_لا طاقة لي بالهرب أنا عليل كما تروني ..هل ستقتلون مريضا لا حول له ولا قوة ...وأنتم من دولة الجيش الاسلامي ؟..نظر إلي الرجل طويلا ثم مسّد لحيته الطويلة ..نظر إلى صاحبه وتمتم
_أنت إبن رجل مرتّد وخارج عن المِلّة .وإذا كبرتَ ستكون مثلهم.. ستقاتلون الدولة الاسلامية ..اتعلم لماذا غزونا قريتكم وأنتم محسوبون على مِلَّتِنا .
_لا والله ..ضحكَ الرجل من قولي ثم سار بضع خطوات وضع ذراعه على رتاج النافذة قائلا :
_البعض من شباب هذه القرية منخرطون في سلك الشرطة والجيش ورفضوا الانضمام إلينا ..ومنهم والدك الكلب ..لم يكد يكمل جملته الأخيرة حتى دخل رجلان آخران وانظما إليهما ..وقفا يتفرجان عليّ ..ترك الرجل النافذة ومسح أنفه بظاهر كفه وقال :
_أحرقوا الدار حالما أخرجُ من هنا؟ ..التفت إليَّ وهو يقّرب وجهه مني قائلا :
_وأنت ياولد ..سانقذكَ من مرضك هذا وسوف لن تحتاج بعد اليوم إلى زجاجة دم أبدا..أفزعتني كلماته مددتُ يدي المرتعشتين وأمسكتُ بطرف ثوبه متوسلاً :
_أرجوك دعني أموت بسلا م....لا أريد أن أموت حرقا بالنار.. استدار نحوي قبل أن يخرج مع رجاله هتف بي قائلا :
_وكيف تريدني أن أعفو عنك ..أبوك نفذ بجلده حرّا طليقا دون القبض عليه ...لا بد لي من حرقك وحرق قلب أبيك . ...قالها وخرج ..لحظات وشبّت النار في الدار و تسّللت إلى غرفتي ..نهضتُ من سريري لأهرب ..وجدتُ الباب موصدا ..مكثتُ أصرخ بكل مالدي من بقايا عزم ..لم استطع مقاومة النار التي هجمت علي من كل جهة كالسنة الأفاعي ..رميتُ نفسي من خلل الباب الخشبي المحترق ..قبل أن أهرب جذبتني يد لم اتبينها لشدة الدخان الكثيف ..رفعتني عالياً ووضعتني في أحضان دافئة ..بصَّرتُ جيدا فقد لا ح لي أني أجلسُ في حضن فارس يمتطي جواده..فارسٌ ملثم يرتدي لامة الحرب ، سمعته يهمس لي :
_لا تخفْ سأنقذك من هؤلاء الأوباش ..هدَّئ من روعك وكن معي بأمان ..سار بي الفارس مسافة طويلة وهو يشق الدخان والسنة النار والتراب ..أو صلني إلى شارع معبد بالإسفلت وأنزلني قائلا :
_ستكون هنا في أمان ..أسلكْ هذا الشارع حتى نهايته.. ستجد عائلتك ينتظرونك عند سيطرة عسكرية حكومية .
_من أنت ياسيدي ..لم تخبرني عنك ؟
ابتسم الفارس ولوَّح لي بكفه وهو يقول قبل أن يختفي :
_لاعليك مني.. في أمان الله ..طوال مسافة الطريق وانا افكر في هذا الفارس الغريب ،كأنه عاد لي من الزمن الماضي بلامة حربه ..كان يحمل السيف ويرتدي قلنسوة ..ملابسه غريبة ..بعد أن وصلتُ إلى السيطرة العسكرية بوقت لم أتوقعه فقد كنت أسير بخطوات خفيفة كأني أطير في الهواء وجدت أسرتي وجمع من الناس ..أخبرْتُهم عن الفارس الذي أنقذني من الموت ..كذلك هم قصَّوا علي حكاية هذا الفارس الذي أنقذهم من أيدي الأعداء .. ظل هذا الفارس يعودني كلما احتجت إلى زجاجة دم ..يقف على رأسي في المشفى دون أن يراه أحد ..بعد أن ينفذ الدم إلى أوردتي ..يتركني ويرحل ..مرَّت علي شهور خمس لم أحتج فيها للدم فقد شفيت تماما من مرضي هذا ..قد استغرب أهلي والناس والكادر الطبي الذي يشرف على حالتي ..ولم أكن مستغربا فأنا مطمئن لكل هذا فقد جاءني الفارس ومسح على رأسي قبل خمسة شهور وقال لي :
_لن تحتاجَ إلى الدم مرة أخرى ياولد ..أترككَ في رعاية الله ..لشد مايؤلمني في أن أعرف من هذا الفارس الغامض ..أمنية لطالما تراودني كل يوم لمعرفة الفارس الذي غاب عني منذ زمن طويل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق