أبحث عن موضوع

الأربعاء، 15 فبراير 2017

القرنفلة البيضاء(قصة قصيرة ).............. بقلم : عادل نايف البعيني / سوريا

للأحبة الأدباء والكتاب والقراء للقصة القصيرة .... قصة متخيلة ربما تجد لها حقيقة في واقع الحياة




- أنا هي-
اليومَ عندما ألتقي سامي على الماسينجر، سأخبِره عن جارِنا الذي لا يحترم راحة جيرانه، والذي يتفنّن في اكتشاف ما يثير إزعاجنا، وكيف أنّ مضايقته تزداد عندما يلمح تذمّرا يرتسم على وجهِي أو وجه أبي، وسأقول لسامي: "إنّ المذياع الذي يطلقه هذا الشاب أشبه بقطيع جواميس برّية على مشرب ماء، وسأكتب له كم نغّص عليّ أحلامي التي كنت أغزلها معك، وهو يفتح تلك المكبّرات الصوتية المزعجة. واليوم سأكون صريحة معك يا سامي، وسأفصح لك عن مكنونات صدري".
نهضْت هذه الليلة وقلبي ينبض بعنف، رحت أستعيد ذلك الحلم اللذيذَ، إذ لقيته دون سابق موعد في زقاق ضيّق، حُشرْت فيه، كما لو أنني في حافلة ركاب، انتفض عصفور قلبي طارقا صدري، فنهضت مذعورة، حاولْت العودة للحلمِ فلم أفلحْ. أتراني فعلا بدأتُ أحبُّهُ أم تلك تهيؤاتُ مراهقين، منذُ يومين عندما طلبَ صورتي على المسينجر، ارتجفْتُ وشعرْتُ بإحساسٍ غريبٍ؛ كما لو أنّه سيأخذُها ليساومَنِي عليها فرفضْتُ بشدّةٍ.
ورفضت أن أقدِّمَ له أيًّا من التسهيلاتِ عن حقيقتي. أَمَا عليّ أن أتأكّد أولا بأنّه لا يتلاعب بعواطفي، رغمَ اعتقادي بأنّ مثلَ هذا الحبِّ – إذا كان موجودا واستمرّ- قد يصبحُ كأسطورةِ أدونيسَ يوما، وقد يموتُ عندَ أوّلِ لقاء، لكنْ أيُّ حبٍّ هذا الذي يأتي من خلال كلماتٍ يبثُّها واحدُنا للآخر عبْر أزرارٍ جامدةٍ كتمثالٍ صنميٍّ، لا مشاعر لا عواطف أو حياة . ما زلْتُ غيرَ مقتنعةٍ من ولادةِ حبٍّ عبر النت، ولعلَّ ما يحدُث ردة فعلٍ لحالةٍ نفسيَّةٍ أعيشُها كغيري من الفتيات، حالةٍ من قبيلِ كبتٍ وحرمانٍ ومراقبةٍ وخوفٍ قهر و..و. مع كل ذلك بتُّ أتحرَّقُ شوقًا للقائِهِ، سيُطلُّ عبر نافذة المسينجر بعدَ ساعةٍ من الآن، وسيتراقَصُ الشوقُ في عينيّ كالعادةِ حينما تطالعُ عينايَ حروفَهُ المزينةَ بالزهور والقبلات، وتقرأُ غزلَهُ الذي يقطُرُ حنانا، كنْتُ عندما يقفزُ اسْمُه منبّها على دخوله المسينجر، أشعُرُ بارتعاشٍ لذيذٍ، أكادُ ألْمَس بروحي الكلماتِ الرقيقةَ التي بدأَ يتجرّأُ على بثّها عبر الكيبورد. البارحةَ فقط كتبْتُ له عبارةَ "حبيبي" دونَ أن أُضيفَ شيئًا. انتظرْتُ ردةَ فعلِهِ، خُيّلَ لي أنَّنِي أرى الدماءَ تتسابقُ على مضمارِ شرايينِ خدّيْهِ، فتصبِغُهما بالاحمرار. تساءَلْتُ للحظةٍ: "أهو أسمرُ البَشَرَةِ؟ وما لونُ عينيهِ؟ هل يَضَعُ مثلي عدساتٍ لاصقةً؟ وهلْ هو صادقٌ فيما يبثُّنِي إياه؟ وهل حقّا كما قال بأنه سيتخرَجُ بعد سنةٍ من كلّيَّةِ الحقوقِ؟ ويصبح محاميا له مكانته؟.
***
-أنا هو-
لقد أصبحَتْ تلك الفتاةُ الغامضةُ شغليَ الشاغل، لم يعدْ يغادرُنِي خيالُها، صارَتْ كظلّي، ترتسمُ على صفحةِ عينيَّ طيفًا ضبابيًّا لا أتبيَّنُ منه سوى قلقِ الهوى، تتلوَّنُ في كل مرّة أتخيَّلها فيه بلونٍ جديدٍ، تارةً أراها سمراءَ ذات عينين سوداوين وشعرٍ فاحمٍ، وتارة شقراءَ لا يضاهيها القمرُ جمالا، أتساءَل كثيْرًا لماذا لا أستطيعُ أن أتخيّلها إلا بارعةَ الجمالِ؟ أتراني أخشى أن أراها على غيْرِ ذلك؟ أيُمكن أن يخيبَ ظنِّي إذا التقينا، أظنّني أحبّها وأشتاق لأن أضمَّها إلى صدري ، وأشبِعَها قبلاتٍ، ولكن؟ ماذا لو لم تكن كما أتخيّلُها، ماذا لو كانت مجدورةَ الوجهِ، سوداءَ قميئةَ المنظرِ، أاستمرّ في حبِّها؟؟ كلُّ محاولاتي لترسلَ لي صورتَها لم تنجحْ، حتى ولو أرسلَتْ لي صورتَها، فما الذي يؤكّد لي أنّها لها حقّا، هل كلانا يعاني أزمةَ ثقةٍ؟ مع ذلك خيالها لا يفارقني، أراها كلَّ لحظةٍ تحادثُنِي، تجلسُ معي على طاولةِ النادي، وكثيرا ما كانَتْ تحرِجُنِي مع أصدقائي الذين أتبادل نخبَ الفتياتِ الجميلاتِ معهم، فيسمعونَنِي أحادِثُها، وهي مستلقيةٌ كحوريةِ البحرِ على حافةِ كأسي التي أعبّ منها نشوتِي. فيصرخُ أحدُهم:
=عاد سامي يكلّم نفسَهُ، يغازلُ الكأسَ أمامَهُ، ويرسل رسائل غرامه الوهميّ. هل حقا غرامي بـ"ماري" وهميٌّ؟
في غرفةٍ من غرفِ المحادثة الإليكترونيةِ الكثيرةِ عرفْتُها، تحادثْنا لشهورٍ عديدةٍ، فكنت خلالها بارعًا في تصويرِ أحلامي، استعملْتُ ما في جَعْبَتِي من لباقَةٍ لأجعلَها تحبُّنِي، حاولت أن أصوّرَ نفسي شيئا خارقًا، جعلت من ذاتي سوبّرمان عصره، ربّما فكرْتُ لمرّة أو اثنتين بخداعِها وتزييفِ مشاعري نحوَها، لكنني لم أستطع أن أكملَ، فقد كانت تزداد ولوجا في أعماقي. حتى الآنَ لا أعرفُ من أي بلدٍ هي، بادلتْنِي ما أبديت لها من محبّةٍ وصداقةٍ، شعرْتُ بِها، وأحسسْتُ برقتِها ونعومتِها منذُ البداية، كانَتْ كلماتُها تشي بِها، وتوحي لي بأنّها ملاكٌ أُرسلَ إليّ عبر أزرار الكيبورد، ومع أنني لم أرَ لها صورةً، ولم أعرفْ لها اسْمًا بعدُ، تعلقتُ بها كتعلق نحلة بزهرة، وانشددت إليها، كما ينشدّ عصفورٌ إلى حبّةِ قمحٍ على صدر فخٍّ. أعتقدُ أنّ اسمها مستعارٌ، وليس حقيقيا، وأعلم بأنّها هي تعتقد ذلك أيضا. ولكن إذا حدثَ والتقيْتُها، سأكون صريْحًا جدا معها، وسأُعِدُّ نفسي للقائها يوما ما، عندئذ، سأضمِّخُ جسدي بذلك العطر الفاخر الذي جاءني من أبي في عيد ميلادي، ألم تقلْ لي يوما بأنّ العطرَ الفاخرَ يأسُرُها، اليومَ ولأول مرة كتبتْ لي"حبيبي" هل أنا حقّا حبيبها، وهل هي حبيبتي، لقد وصفَتْ لي نفسَها فَبَدَتْ لي أجملَ مما تخيّلت، أخذت أعيشُها كما لو كانت أمامي، البارحةَ عندما رَمَتْ لي وردة وشفتين حمراوين عبر المسينجر، وصلتاني شفتاها مشحونتين بالدماءِ، أحسسْتُ بنداوتهما، وكدت أسحب اللسان المعسول خلفهما.
***
"هو وهي"
على لوحة المسينجرِ أطلَّ اسمُ سامي مضيئا أخضرَ اللونِ، بادرْتُه كاتبةً:
-لماذا تأخّرت في الدخول يا سامي، منذ نصفِ ساعةٍ وأنا أنتظرُ.
= أعتذر حبيبتي، لم يسعفْنِي الإنترنت، منذ ساعةٍ وأنا أحاولُ الدخول.
-ما أخبارُ الجامعةِ، ومتى تظهرُ النتائجُ؟.
= قريبا وأنا مطمئِنٌّ لها، حبيبتي أما آن الأوانُ كي نلتقي وأتعرف عليك أكثر؟.
-ماذا تريدُ أن تعرفَ؟ ولماذا؟
= لماذا؟ لأنّي أحبُّك وأريدُ أن أراك، سأطير إليك حيثما تكونينَ؟ قولي لي فقط من أيِّ بلدٍ عربِيٍّ أنت؟.
-من سورية أيريْحك هذا؟.
= ياربَّ السماء.. رحمتك!! بدأنا نقتربُ أكثر. أنا من سوريةَ أيضا، ومن مدينة "حلبَ".
-"حلب" ؟؟ أ أنْتَ من "حلبَ". يا للمصادفة الغريبةِ والجميلة.
= لا تقولي لي أنْت أيضا من "حلب". عندها سأُجَنُّ بك أكثر.
-جُنَّ إذن.
= يا لمشيئة الله وأين تسكنين؟
-في حيِّ السليمانية، لن أخبِرَك أكثر من ذلك.
= اقتربنا كثيْرًا يا حبيبتي أنا أيضا أسكن في الحيّ ذاته. ماري لم يعد لدي صبرٌ، إذا كان ما تقولينه الصدق، فأنا أدعوكِ إلى الغداءِ غدًا في مطعمِ (السبيل) تعرفينه حتما؟
-طبعا كلّ المعرفة يا سامي، وأنا قَبِلْتُ دعوتَك، ولكن كيف سنعرفُ بعضَنا هناك.
= لا بأْس سأرتدِي قميصًا أحمرَ وأضعُ عليه وردةً صفراء؟
لمعت برأس ماري فكرة فبادرته قائلة:
- بل يحملُ كلٌّ منّا قرنفلةً بيضاءَ بيسراه.
= حسنٌ موافِقٌ يا حبيبتِي إلى اللقاء غدًا في حديقةِ المطعمِ الساعةَ الواحدةَ ظهرًا.
تقصّد سامي أن يصلَ متأخّرًا، كي يتسنّى له رؤيَةُ ماري من بعيدٍ، تسلّلَ إلى الحديقةِ من الباب الخلفي، وما هي إلا لحظاتٌ حتى وجدَ نفسه في حديقةِ المطعمِ وقد اكتظَّتْ بالصبايا والشباب، فجأَةً رآها من بعيدٍ ها هي تتقدَّمُ حاملةً بيسراها قرنفلةً بيضاءَ، لهفَ قلبُهُ، واهتز كيانُه كوترِ عودٍ، كانت كما تخيّلَها تماما تحاكي البدرَ جمالا، أيقن أن حديث النت حقيقةٌ، فاتّجهَ نحوَها، ويسراه تلوّحُ بقرنفلتِهِ البيضاء، وقبل أن يخطوَ خطوتَهُ التاليةَ، برزَتْ أمامَهُ فتاةٌ أخرى تحمل بيسراها أيضًا قرنفلةً بيضاءَ!، ثم ثالثة فرابعة.. وقفَ ذاهلا وهو يُحصي الفتياتِ اللواتي يحملْنَ قرنفلاتٍ بيضاواتٍ، نظر حوله دهشاً، حارَ في أمرِه، فكّر أن ينادي ماري، لعلّها تنتبه له وتجيب، عاد عن فكرته وهو يقول في نفسه:
"إذا كانت ماري هنا سترى القرنفلةَ بيدي وتعرفُني"، راح يتخطَّرُ بين الصبايا ملوّحًا بِها، لكنّ واحدةً من الصبايا لَمْ تكترثْ له. راحَتِ الصبايا تغادرْن الحديقة الواحدة تلوَ الأخرى، بعد أن رأينَ ماري تتركُ المكانَ تاركةً ابنَ جارِهِم المدلَّلَ الذي تركَ الدراسةَ منذ سنتين، يعتصر بعصبية حادّة القرنفلةَ البيضاءَ بين أصابعِهِ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق