أبحث عن موضوع

الأربعاء، 17 أغسطس 2016

الغرفة رقم 112 ( قصة قصيرة ) ...................بقلم: سوسان جرجس / لبنان




المطر يعزف على قيثارته المقطوعة دون توقف، الصبح يرسم لها من فناجين القهوة المرّة دوائر كونية توحّد بين الأرض والسماء، وهي كعادتها تغرق في صوت "فيروز"، تدخن السجائر حتى نصفها ثم تطفئها على عجلٍ كأنّما تعدم لهبًا خافتًا يصلها بالحياة.
رنّ جرس الهاتف، وضعت كتابها جانبًا، بصوت مبحوح طمأنت والدتها عن أحوالها، صحتها، علاقتها المستقرة بخطيبها؛ ادّعت أن شياطين الحرب لم تلعب الغميضة بعد في حارتهم، وأنّ ترانيم المطر ما زالت تعشق شوارع دمشق التي لم تتخضّب بالدماء، على الطرف الآخر من الهاتف، في بلدِ النزوح والخيم الموهوبة، تشكر الأم الله وتحمده أنّ النيران لم تصل حتى حدود "الأنا".
أغلقت لينا السماعة، انقلبت جدران الغرفة غيلانًا ومصاصي دماء، مرة أخرى شعرت بدوار مخيف يكاد يسقطها أرضًا، بأنامل مرتجفة تحسّست وجهها، أخذت نفسًا عميقًا كأنّها ستغوص في عمق المحيط، كعمياء تلمست الطريق نحو نهدها الأيمن من فوق الكنزة الصوفية السميكة، رويداً رويداً تقلّصت عضلات وجهها في حركة مازجت بين الخوف والتيه، كروبوت آلي مشت ملقية وشاحها الصوفي فوق الكنبة.
في الحمام، نزعت عنها ثيابها، علقتها على مشجب قرب المغسلة، دخلت البانيو أملًا في "دوش" ساخن يعيد لها بعض التوازن النفسي، انسابت المياه مبلّلة شعرًا كستنائيًا قصيرًا ووجهًا أبيض يسطع ببريق طفولي، بأناقة لا شرقية داعب الماء نهدين متكورين بصلابة يوحيان بعدم التملّك الذكوري العبثي بعد.
بأنفاس مقطوعة تحسّست لينا الهالات السفلى لنهديها، أغمضت عينيها على دمعة متصلّبة، ابتلعت ريقها بصعوبة شديدة ثم راحت ترغو الشامبو على جسدها بعنف كأنها تنتقم منه أو تحاول إزالة تلوث توغّل عميقًا في ترابه.
"لم يشفع لي تخصصي في الأمراض السرطانية..لا! ولا بقائي في حقل الألغام أطرد إبليس من أنفاس الجرحى" هذا ما رددته بصوت مسموع وهي ترتدي ملابسها في غرفة جلوس "مكيّفة" هجرها ساكنوها مذ رفض ابنهم الالتحاق بالجيش.
زفرت بأسى، أخذت "السيشوار" وراحت تنشّف شعرها، تحقّقت من مكياجها البسيط، انتعلت "بوتينها" الشتوي ذا الكعب العالي، لبست معطفها الأسود بحرص شديد مخافة أن تلامس أناملها نهدًا بات يترقبها كعين ذئب غدّار، نظرت إلى نفسها في المرآة، تأكدّت من أناقتها، بملامح الرضا والكبرياء الأنثوي تقدّمت نحو الباب الخارجي.
في المستشفى، مرّت تتفقد المرضى وابتسامة وديعة ترتسم فوق شفتيها، برغم اعتقادها الراسخ بنجاعة العلاج الكيماوي "للسرطان" إلا أنّها تؤمن بأنّ العلاج النفسي هو الطريقة الوحيدة التي تجعل المريض يتجاوز أشدّ مراحل المرض صعوبة وألمًا.
أنهت جولتها، استدارت متجهة نحو غرفة الأطباء المناوبين حيث ينتظرها الدكتور وائل، خطيبها، من آخر الممر سمعت بكاء مريرًا يشق السماء ويزلزل الأرض، صراخ طفل يحاول الإفلات من أنياب الموت، انقلبَت مهرولة وهي تصيح بالممرض أن يتبعها بحقنة مورفين مخفَّفة الى الغرفة رقم 112؛ عند الباب تسمّرت مشلولة، كورقة في مهب الريح يرتجف الطفل بين يديّ أبيه الذي لم تجف دموعه مذ عرف أنّ أفراد أسرته دفنوا جميعا تحت الركام، بسرعة البرق استعادت دورها كطبيبة، أخذت الصغير إلى حضنها فيما حقن الممرض ذراعه بالدواء المهدّئ، شيئًا فشيئًا تمدّدت ملامح الوجه البريء وأُغمِضَتِ العينان على حلم ضائع؛ بذهول لاحظت الطبيبة أن رأس الطفل ملتصق بنهدها الأيمن، وضعته في السرير، رفعت رأسها.. الغرفة تدور.. وتدور.. أسرع من دولاب الملاهي في دمشق يوم العيد.
فتحت عينيها، تبسّم وائل وقبّل كفيها، أشاحت بوجهها نحو الحائط قائلة:
- أنا وأنت... لا بدّ أن ننفصل.
ضحك مستغربًا، أدار وجهها ناحيته، قبّل خدّها المبلّل بالدموع، أضاف:
- ما بك؟ إنّه مجرد دوار بسيط، إعياء من جرّاء الدوام الليلي.
- ليس الأمر كما تعتقد.. إنّه سرطان الثدي.
مذهولًا ضمّ كفيها بين كفيه، تابَعَت:
- لم تظهر نتائج الفحوصات بعد، لكن لا تنسَ إنّي طبيبة متخصصة وأدرك عوارض المرض جيدًا.
- ......
- وائل، لن أقبّل بحرمانك من حياة زوجية انتظرتَها طويلًا، يحق لك الزواج بامرأة تسعدك نفسيًا وجسديًا، يحق لك أن تعيش الأبوّة دون عوائق.
قطب حاجبيه، أشار لها أن تسكت، تسمّرت عيناه في عينيها اللوزيتين، اقترب منها، قبّل شفتيها برغبة عارمة كما لم يفعل من قبل، ضمته بقوة إلى صدرها مرددة "أحبك".
هنيهات قليلة ساعد وائل لينا في ارتداء معطفها، تأبّط ذراعها وهو يضحك متهمًا إياها بالغنج والدلال، سارا متمهلين في الممر، سمعا جلبة قوية وإطلاق نار كثيف مصدره الطابق الأول من المستشفى، عادا أدراجهما مسرعين، إطلاق النار يقترب وملثمون بثياب سود يعبرون الغرف ويحصدون الأرواح البشرية.
في الغرفة رقم 112 أربعة أشخاص يتكورون في الزاوية، يدخل الشيطان، يأمر رجاله "عليكم بسنّة الملائكة... لا تقتلوا طفلًا ولا شيخًا ولا امرأة".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق