أبحث عن موضوع

الجمعة، 11 سبتمبر 2020

تعريب التعليم الجامعي.............. بقلم : بقلم: فيصل سليم التلاوي _ فلسطين




تمهيد: لا تهدف هذه المقالة إلى مناقشة العقبات والعراقيل، التي يُزعم أنها تقف حائلا دون تعريب التعليم الجامعي في الكليات العلمية، خاصة الطب والهندسة والصيدلة ومثيلاتها، من تذرع بالنقص في المراجع العلمية والمعاجم المختصة بالمصطلحات العلمية في اللغة العربية، وكون معظم أساتذة الجامعات قد اكتسبوا علومهم باللغتين الإنجليزية والفرنسية، كل حسب الدولة الاستعمارية صاحبة الإرث الاستعماري لبلده، وصعوبة تكيفهم وتبديل لغتهم التعليمية.

كل تلك الأمور ومثيلاتها لها من المختصين والباحثين، والمراجع العلمية ومجامع اللغة من هو كفيل بمتابعة ومعالجة شؤونها بالوسائل المتخصصة والمفصلة، لو أريد لهذا الأمر أن يتحقق.

لكنني رغبت في توجيه نظر قارئ هذه المقالة إلى جانب آخر معنوي، علّه يستثير همته وغيرته على لغته، وذلك بلفت نظره إلى مقارنة أولية بين عدد من لغات العالم، وكيفية تعاملها مع هذا الموضوع ذاته، ألا وهو لغة التعليم الجامعي. فإن مما يلفت النظر أن لغة واحدة في العالم كله، تتفوق في عدد الناطقين بها من أمة واحدة على لغتنا، وهي لغة (ماندرين) الصينية، التي يتكلم بها قرابة تسع مئة مليون صيني، تليها العربية التي يتكلم بها نصف العدد السابق تقريبا، وهم أبناء الأمة العربية الذين تمثل العربية لغتهم الأم، أما الهندية فلا يتجاوز عدد الناطقين بها مئتي مليون، حيث توجد إلى جانبها الأوردية والبنغالية وعشرات من اللغات المحلية.

أما اللغة الإنجليزية وإن تكلم بها ما يزيد على مليار من البشر، فإنها لا تمثل لغة قومية سوى للإنجليز، أما غيرهم من الناطقين بها في أمريكا الشمالية وأستراليا وإفريقيا والهند وباكستان، فهي لغة مكتسبة، لغة عابرة للحدود والقارات بحكم الماضي الاستعماري لبريطانيا، التي فرضت لغتها على أمم وشعوب من غير جنسها، مثلها في ذلك مثل الإسبانية، التي هي لغة القارة الأمريكية الجنوبية بشعوبها وقومياتها المختلفة، عدا البرازيل التي تنطق بالبرتغالية المتفرعة من الإسبانية.

فالعربية هي اللغة الثانية في العالم، من حيث عدد الناطقين بها كمجموعة عرقية واحدة، تنحدر من قومية واحدة ذات ماض وحاضر مشتركين.

وحتى تكتمل المقارنة، لا بد من إيراد نماذج لقوميات تتكون من عدة ملايين، وبعضها لا يتجاوز بضعة ملايين، أي أقل من عدد سكان مدينة عربية واحدة، وبعضها استقل حديثا وانفصل عن دول كبرى كان يرتبط بها وبلغتها لعقود طويلة، وهذه بعض الأمثلة: اليونان وعدد سكانها أحد عشر مليونا، التشيك وعدد سكانها عشرة ملايين، رومانيا وعدد سكانها اثنان وعشرون مليونا، كرواتيا وعدد سكانها أربعة ملايين ونصف، ليتوانيا وعدد سكانها ثلاثة ملايين ونصف، بلغاريا وعدد سكانها سبعة ملايين ونصف، مولدافيا وعدد سكانها أربعة ملايين ونصف، ولغاتها الرسمية المعتمدة في التدريس الجامعي هي على التوالي اليونانية والتشيكية والرومانية والكرواتية والليتوانية والبلغارية والمولدافية. كل أناس بلسانهم، وليس بلسان غيرهم. وعندما يتوجه أحد أبنائنا للدراسة في واحدة من الدول التي سبق ذكرها، وما أكثر من يتوجهون! فإنه يمضي عاما بطوله يتعلم لغة تلك الدولة، التي قد لا يزيد عدد سكانها عن عدد سكان حي من أحياء القاهرة، ويظل في مسيرته الجامعية أعرج اللغة، إذ يستحيل على من درس لغة جديدة مدة عام واحد، أن يجاري في استيعابه لها، ومتابعته لدروسها من كانت تلك اللغة هي لغتهم الأم، مهما بذل من جهد ومثابرة. والسؤال المحير هو لماذا استطاعت كل تلك الأمم الصغيرة التغلب على عقبات الترجمة والمراجع والمصطلحات وتهيئة الأساتذة، لتدريس العلوم كافة بلغاتها القومية على قلة الناطقين بها، وعجزنا نحن عن فعل ذلك، ونحن أسبق منهم في الاستقلال وتكوين الدول الوطنية، بل وفي حيازة ماض عريق من النقل والترجمة من لغات أخرى إلى لغتنا، ثم من لغتنا لغيرها من اللغات في العصر العباسي وما تلاه من عصور؟

نظرة تاريخية:

ألسنا نحن من نباهي الدنيا بأن لغتنا كانت ذات يوم لغة العلوم والآداب والفلسفة والحضارة، يوم كانت عاصمتها بغداد حاضرة الدنيا؟ ألم يتسابق لتعلمها يومها الفرس والهنود والترك واليونان والسريان وسائر الأمم، من اعتنق الإسلام منهم ومن ظل على دينه ومعتقده؟ ألم يشتغل هؤلاء الذين حذقوا العربية بترجمة كل علوم الأمم السابقة وآدابها وفلسفتها من هندية وفارسية ويونانية ونقلها إلى العربية؟ بتشجيع ورعاية الدولة ممثلة في الخليفة المأمون، حتى أصبح (بيت الحكمة) في بغداد مؤسسة ترجمة عالمية، لا تفرق بين مسلم ونصراني ويهودي، الذي روي عنه أنه كان يكافئ المترجم حنين بن إسحق، بأن يمنحه وزن الكتاب الذي يترجمه ذهبا. أما كان الناطقون بالعربية من أبناء الأمم الإسلامية سباقين للإبداع والابتكار في شتى ميادين العلم والمعرفة، بل ومتفوقين على أبناء العربية، حتى في علوم اللغة العربية وشعرها، وفي علوم الفقه والحديث وعلم الكلام؟ ألم تكن العربية يومها لغة لكل أبناء الأمم الناطقين بها، كما هي حال الإنجليزية اليوم في الولايات المتحدة، التي تتسع للعلماء والمخترعين من كل جنس ودين؟

ألم يترجم كتاب (الحاوي في الطب) لأبي بكر الرازي إلى اللاتينية، وظل يدرس في الجامعات الأوروبية زمنا طويلا؟ ومثله كتاب (القانون في الطب) لابن سينا، الذي ظل المرجع الرئيسي في الطب لجامعات أوروبا لسبعة قرون، حتى منتصف القرن السابع عشر، وكتاب (المناظر في علم البصريات) للحسن بن الهيثم الذي ترجم إلى اللاتينية، وإنجازات أبو الكيمياء جابر بن حيان، والخوارزمي صاحب كتاب (المختصر في حساب الجبر والمقابلة) الذي ترجم إلى اللاتينية، وأولاد شاكر في علم الميكانيك، وغيرهم كثير. ولماذا أمكن ترجمة كتب كل أولئك من لغتهم العربية إلى لغة أخرى على ضعف وبدائية الوسائل المستخدمة آنذاك، ويصعب علينا اليوم فعل ذلك، مع كل وسائل التقدم والتطور العلمي التي تيسر ذلك.

وقل مثل ذلك في الأندلس. ألم تكن قرطبة وأخواتها من مدن الأندلس منارات للعلوم والآداب، يقصدها الطلاب من أوروبا للاستفادة من علومها؟ وبرز فيها نوابغ في مختلف العلوم. من الزهراوي الطبيب، إلى ابن حزم العالم بالتاريخ والأنساب والسياسة والفقه والحديث، إلى ابن زهر الإشبيلي الطبيب، إلى ابن رشد صاحب الشروحات على فلسفة أرسطو، إلى ابن البيطار في علم النبات، إلى أبو عبيد البكري الجغرافي صاحب كتاب (المسالك والممالك) الذي وصف جغرافية الأندلس، وغيرهم مما لا يحصيهم عد من العلماء والمفكرين ؟ وكذلك كان شأن صقلية التي انتقلت منها العلوم العربية إلى إيطاليا وما يليها من الأقطار الأوروبية؟

فلماذا كانت العربية تصلح يومها لتدريس العلوم ولم تعد تصلح اليوم؟

ومثلما يقال في الميدان العسكري عند سقوط مدينة بأيدي أعدائها: المدينة لا تسقط، الناس من روعهم يسقطون. فالمدينة لا تبرح مكانها، ولا تسقط من أي علو، لكن المدافعين عنها هم من يتساقطون. ومثل ذلك يقال في شأن اللغة التي لا تعجز ولا تهرم، لكن الناس من وهنهم يعجزون، فيُعلقون عجزهم وخورهم على شماعة اللغة، ويدعون أنها لغة قديمة عتيقة لا تتفاعل مع العصر وعلومه، وكأنما يراد للغة بذاتها أن تتطور وتتقدم، وليس بجهود وابتكارات ومساهمات أبنائها؟

أتساءل مثلا كيف أمكن للغة العبرية أن تبعث من موتها بعد ألفي عام من النسيان؟ولم تكن سوى بقايا لغة مندثرة، لا يتكلم بها حتى من يدعون الانتساب لها، فما كانت سوى واحدة من اللغات السامية القديمة المنقرضة، كالآرامية والسريانية والنبطية، التي لم يعد هناك من ينطق بها إلا من ندر. فقد تحدث اليهود بلغات الأقوام التي عاشوا بينها، وإن اجتمع بعضهم في شرق أوروبا على لغة الياديش، التي هي خليط هجين من اللغات الألمانية والإيطالية والفرنسية والآرامية والعبرية. فكيف أمكنهم بعث الحياة في اللغة العبرية في سنوات عديدة، وصار كل مهاجر منهم إلى فلسطين يجد لزاما عليه تعلمها، وأضحت لغة العلم والتأليف والتدريس الجامعي والبحث العلمي، ويقدم بها سنويا من البحوث العلمية ما يفوق كثيرا من حيث الكم والكيف ما تقدمه لغتنا العربية بدولها الاثنتين وعشرين، وملايينها التي تعد بالمآت، كما حاز ثمانية من الناطقين بها على جائزة نوبل.

النموذج السوري:

لقد عملت الجمهورية العربية السورية على تعريب التعليم في جامعاتها في مختلف الكليات، وأعدت لذلك عدته من المدرسين المختصين الناطقين بالعربية، والكتب العلمية والمعاجم المتخصصة في كل فرع من فروع العلوم العصرية، فهل نجد الأطباء والمهندسين السوريين أقل كفاءة من غيرهم ممن درسوا في جامعات تعلم بلغات غير لغات أهلها؟ أبدا فقد أثبتت المتابعات والإحصاءات السنوية أن نتائج الأطباء السوريين الذين يتقدمون لامتحانات الطب في الولايات المتحدة، لا تقل عن نتائج زملائهم الدارسين باللغة الإنجليزية، بل تتفوق عليها قليلا، مع أن الامتحانات تعقد باللغة الإنجليزية.

لا جدال في أن الإلمام بلغة أجنبية من متطلبات المثقف، والأكاديمي المتخصص حتى في الدراسات الأدبية، وهذا ما تشترطه الجامعات الرصينة على طلبة الماجستير والدكتوراة، ليتمكنوا من البحث والتحصيل والمتابعة لكل جديد. لكن تلك اللغة الأجنبية ليست لغتهم الأساسية التي يتعلمون بها، بل لغة ثانوية.

ما أوردناه من جهد سابق لتعريب التعليم كان جهد دولة عربية واحدة، فكيف لو تضافرت جهود الدول العربية مجتمعة تحت إشراف جامعة الدول العربية، وتوحدت جهود هيئات الترجمة والتعريب، واللجان المشرفة على المعاجم اللغوية والعلمية، في جهد منسق واحد موجه نحو الترجمة والتعريب؟ لا شك أن ثمرة ذلك ستكون عظيمة ونافعة لجميع الناطقين بالعربية.

مزايا التعلم باللغة الأم:

أن تعلم المرء بلغته الأم التي يتواصل بها يوميا، أيسر استيعابا وأجدى نفعا من التعلم بلغة لا يستعملها إلا وقت دراسته، ثم ينصرف عنها إلى لغة أخرى في كل شؤون حياته. فينشأ عن ذلك ازدواجية وانفصام بين لغتين، واحدة للتواصل في جوانب الحياة، وحتى للتحدث والشرح للطلاب الجامعيين، وأخرى للمصطلحات العلمية وتسمية التفاعلات وتشخيص الحالات فقط. فمن الذي يزعم أن محاضرينا الجامعيين يحاضرون بإنجليزية تامة لمحاضراتهم العلمية كاملة، وأنهم يستطيعون ذلك لو أرادوا باستثناء قلة قليلة منهم، ومن قال إن طلابنا يستطيعون المتابعة ويحسنون الاستيعاب، لو كانت محاضراتهم كاملة بالانجليزية. إنهم لا يطيقون ذلك ولا يقدرون عليه، رغم أن مناهجهم وكتبهم العلمية كلها بالانجليزية، لكن يظل المجتمع والمحيط كله العامل القاهر، الذي يفرض لغته عليك فرضا. فما يتواصل به الطلبة الجامعيون في الكليات العلمية وأساتذتهم في الواقع الفعلي ليس اللغة الإنجليزية ولا اللغة العربية، بل هو خليط هجين من اللغتين، يُغَلِّب المحاضر العربية في الشرح والتواصل، ويلجأ للانجليزية عند المصطلحات والأسماء وتوصيف الحالات، بما يناسب أن يطلق عليه اللغة (العربيزية). ويكون نتيجة ذلك أن هذا الخرّيج لن يكون إنجليزي الثقافة ولا عربيها، بل مزيج بين هذه وتلك، مما يؤدي إلى ضعف تواصل الطبيب أو المهندس بمجتمعه المحيط به، والمفترض أن يتعامل معه، لأن هذا المجتمع لا يفهم عليه، ولا يُلم باللغة التي يتحدث بها، إن أراد إيصال فكرته أو شرح حالة معينة، لأن رموزها ومصطلحاتها باللغة الأجنبية التي درسها، والتي لا يتقنها أحد سوى زملائه العاملين في نفس الميدان.

الترجمة والتعريب:

ليس من الضروري تضييق باب الترجمة، وإلزام كل كلمة مترجمة أن ترتد إلى اشتقاق ثلاثي، وإلى جذر عربي أصيل، إذ يمكن التوسع في هذا الباب، والمزاوجة بين الترجمة والتعريب، ونقل الكلمات أحيانا بنفس هيئتها وطريقة نطقها، فمثلما ترجمنا تلفون إلى هاتف وكمبيوتر إلى حاسوب، وباص إلى حافلة، وغيرذلك كثير، وعربنا كلمات مثل تلفاز وأمبير وإسمنت وبطارية وألكتروني وأوتوماتيكي وبنك وسينما، مع تحريف بسيط ليتناسب مع النطق العربي، ونقلنا كلمات بنفس لفظها مثل كاميرا وإنترنت وفيس بوك، فلا ضير في السير على نفس المنوال، وإذا كانت المصطلحات العلمية المتداولة في شتى اللغات بمسميات متشابهة أو مشتركة أحيانا، فلتكن كذلك في لغتنا مع تحريف طفيف يناسب النطق إن دعت الضرورة لذلك. وما ذلك على لغتنا بجديد، فإن من يتتبع آلاف المفردات والمسميات التي عربها العرب في الأندلس مع تدوير بسيط للفظها الأصلي، ليصبح متناسبا مع اللسان العربي، ليستغرب كيف نعجز اليوم عن فعل مثل ذلك. وسأمثل لذلك بأسماء مدن وأماكن إسبانية عربها العرب، فقد عربوا مدريد إلى مجريط، وكوردفا إلى قرطبة وتوليدو إلى طليطلة وغرانادا إلى غرناطة، وسركوزا إلى سرقسطة وسيفيليا إلى إشبيلية وبداجوز إلى بطليوس وإيفورا إلى يابرة وميرادا إلى ماردة، وألكنتي إلى بلدة القنط، وسانت إيرين إلى شنترين، وسانتا ماريا إلى شنتمرية، ولعله كان الأنسب لو ترجموا الاسمين الأخيرين إلى الست إيرين والست مريم أو ستنا مريم. وأكثر من ذلك الكلمات العربية التي دخلت إلى اللغة الإسبانية ولا تزال جزءا منها.

وأي غرابة في ذلك، ونحن نجد القرآن الكريم، الذي نزل (بلسان عربي مبين) و(إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) وهو يشتمل على مفردات من لغات فارسية وآشورية وسريانية وعبرية ويونانية ومصرية وحبشية، مثل كلمات (أباريق وأرائك وإستبرق وتابوت وجهنم وحَبر وزنجبيل وسجيل وسرادق وصراط وطاغوت وفردوس وماعون ومشكاة)، لكنها مفردات كانت قد أضحت عربية باستعمال العرب لها قبل عصر نزول القرآن، وبهذا فقد عربت نطقا واستعمالا وخطًا. أفنستنكف أن نفعل اليوم مثل ذلك، فنعرب ألفاظا وندخل ألفاظا أجنبية إلى لغتنا لتزيد من ثرائها وتوسع من مصطلحاتها العلمية؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق