أبحث عن موضوع

الجمعة، 27 أغسطس 2021

الدراسة التحليلية كاملة للدكتور الناقد العلمي دريوش لقصيدة الشاعر المبدع يونس عيسى منصور (شرف النخيل)




.
٠٠ حين تصبح اللغة الواصفة لغة شعرية.
قراءة في قصيدة "شرف النخيل " للشاعر
يونس عيسى منصور.
قصيدة " شرف النخيل" قصيدة شعرية عمودية متميزة ، فقد اختار الشاعر يونس عيسى منصور الإطار الشعري التقليدي لتقديم مضمون شعري يتميز بالجدة والطراوة. والملفت للنظر أن الشاعر اعتمد اللغة الواصفة لغة شعرية وهو رهان لا يفلح فيه إلا المتمكن من أدواته الشعرية.
لقد جاءت القصيدة على بحر الوافر الذي أدخل الشاعر على تفعيلاته تغييرات لتطويعه وجعله ينسجم مع حركة المعنى وامتداداده في النص. وإخلاصا من الشاعر للبنية الايقاعية حافظ على كل مقوماتها الكلاسيكية بدءا من وحدة الوزن وتصريع البيت الأول وصولا إلى الحفاظ على وحدة القافية والروي. فالقافية جاءت مطلقة لأن رويها متحرك وهي على وزن (فَعْلُنْ) والروي هو حرف اللام. وهذا الاختيار ينسجم مع رهان القصيدة التي يعلن الشاعر في مطلعها أنه دخل في سجال شعري مع فتاة دمشق .. وجرب كل بحور الشعر في مجاراتها لكنها تفوقت عليه. فمن تكون فتاة دمشق؟ هل هي مجرد رمز لهويته الشامية وانتمائه إلى دمشق أم إنها هي القصيدة المثال التي نأمل في كتابتها لتظل أفقا هاربا وعصيا؟
ما أجمل هذه الافتتاحية بما فيها من حس جمالي وعمق فكري:
تساجلني من البحر الطويل
فتاة دمشق وارثة الفحول
فتغلبني كرارا حيث أبقى
كمن يبكي الحبيب على الطلول
بكل تواضع يعلن الشاعر تفوق فتاة دمشق وانهزامه المستمر أمامها.. وكيف لا وهي وارثة الفحول .. كيف لا تهزمه القصيدة وهي تجر خلفها تاريخا حافلا ساهم فيه فحول الشعراء. وها هو يشبه حاله وإحساسه أمامها بمن يقف على الأطلال ويبكي الحبيب. إنه إحساس بالغربة والوحشة وبالزمن الهارب والمنفلت.. وبأن المحبوب أضحى من الصعب الوصول إليه لكن الأطلال تؤجج الشوق والحنين. إنه تناص يجري حوارا عميقا مع روح المطلع الطللي في شعرنا القديم ليبث فيه الشاعر حياة جديدة ومغايرة.. فهو في استعماله للمعجم يجعلنا نشعر ان النص كتب من مساحة نصوص كثيرة يقف عند تماسها ولا يستنسخها أو يدمجها بشكل صريح .. فهي تظل غائبة لكننا نحس بظلالها..
صورة الشاعر الشهم الشجاع تَمثُل أيضا بشكل حواري عميق.. فالشاعر لا تعوزه الشجاعة والقوة ولذلك يشبه نفسه بالأسد الذي يكسر فريسته ، لكنه مع ذلك يضعف ويهتز أمام الأنثى :
فقد أهتز من ريم بتول
وقد استعمل الشاعر اسم "ريم" لما ينضح به من حمولة دلالية وجمالية وإبداعية.. فالإسم مثقل بدلالات تعود إلى استعماله في نصوص شعرية كثيرة بحيث أضحى له وقع خاص على المتلقي. فالريم هو الغزال بما يرمز إليه من صفاء وجمال.. وإمعانا من الشاعر في مضاعفة دلالات اسم "ريم " أضاف إليه صفة "بتول" وهي البكر العذراء رمز الطهر والعفة.. وبذلك فهو تعليل لطيف يفسر لنا سبب انهزام الشاعر في السجال الشعري أمام فتاة دمشق.. فقد جاء بمستطيل لا يجارى (بَحْرُ المُسْتَطِيلِ أو بَحْرُ الوَسِيطِ هو بحر مهمل من بحور دائرة المختلف التي تحوي الطَّوِيل والمَدِيد والبَسِيط، ووزنه: مَفَاعِيلُنْ فُعُولُنْ مَفَاعِيلُنْ فُعُولُنْ وهو عكس بحر الطَّوِيل، ذلك أن أصل تفعيلاته هي مَفَاعِيلُنْ فُعُولُنْ، في حين أصل تفعيلات بحر الطويل هي فُعُولُنْ مَفَاعِيلُنْ)..لكنها ردت عليه بألف مستطيل.. من هنا يتعزز الاعتقاد لدينا أن فتاة دمشق هي رمز لروح القصيدة العربية بما فيها من غنى وتنوع يصعب على الشاعر إن لم أقل يستحيل عليه ادعاء وصول الكمال في مجاراتها.. هذا الإحساس شعر به عنترة بن شداد في " العصر الجاهلي" حين افتتح معلقته بهذا السؤال:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم؟.
يعلن الشاعر غيابه من الميدان الذي كثر فيه حساده وقل أصدقاءه و غاب معه شيطانه الشعري .. ثم يتدارك الأمر ليوضح أن غيابه يرجع إلى كون كل بحور الشعر لا تشفي غليله.. وربما مرد هذا الاحساس إلى كثرة ما تم إبداعه من نصوص في هذه البحور بما يجعل الشاعر يشعر بفداحة البحث عن ذاته الشاعرة. فرغم خوضه تجارب عديدة بحثا عن جديد يتجاوز تجارب السابقين يعتريه شعور بتواضع الحصيلة :
فصرت كباحث عن نصف بحر فلم أعثر على ربع طويل
وهو راض بأية نتيجة كانت هزيمة أم نصرا.. فالمهم هو الفعل في التاريخ بعيدا عن التطبيل والمديح. وينتهي إلى الكشف عن بعض ملامح فتاة بغداد أو "ريم" التي اهتز لها وهي (مريم العذراء نخلا).. والتي تعتبر شرف الشام.
وهنا نرى تناصا آخر يوظف مريم والنخيل كما ورد في القرآن. وهو تناص يحور المعنى ليشحنه بدلالة إيديولوجية مبطنة.
لقد كان غرضنا في هذا التحليل أن نبين رهان الشاعر على توظيف لغة خاصة استلهم جل مفرداتها من العروض والشعر وهي لغة واصفة تحولت إلى لغة شعرية تتسع لمعاني وأحاسيس تكون في مجموعها رؤية الشاعر الابداعية. لنتأمل هذا المعجم ( البحر الطويل ، الفحول، الطلول، مستطيل، لا يجارى، ألف مستطيل، شيطان القوافي، قصيدة، بحور الشعر، نصف بحر، ربع طويل، عكاظ...). من هذه اللغة نسج الشاعر صوره الفنية وداعب خيالنا بلغة مستقاة من مصطلحات الإيقاع الشعري القديم دون أن يتركها تتحول إلى لغة واصفة أحادية المعنى ، فطريقة التركيب والخيال الشعري الخلاق فتحا هذه اللغة على تعددية تخصب دلالات النص وتفتحه على تأويلات مختلفة.
ولعل القراءة الجيدة للنص هي التي تبحث لنفسها عن زاوية خاصة للتأويل لترى فيه ما لم يراه الآخرون فيكتسب مع تجربة القارئ الخاصة حياة جديدة. ونتمنى أن نكون فعلا قد أسهمنا في إضاءة جوانب مهمة في قصيدة الشاعر يونس عيسى منصور انطلاقا من زاوية خاصة مارسنا من خلالها فضولنا التأويلي الخاص .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق