أبحث عن موضوع

الجمعة، 27 أغسطس 2021

قصة قصيرة / البُركة المباركة .................. بقلم : صباح خلف عباس // العراق



أقل من عشرين عاماً عمره٬ لكنه أحبها كثيراً٬ عشقها عميقاً بقدر فقره وحرمانه…
سمع من أقرانه الأثرياء الميسوري الحال في الثانوية:
"إن هناك في بعض البلدان نافورات معطاءة … يذهب اليها العاشقون … يرمون قطع نقدية لتحقيق أمانيهم."
وظلت هذه الفكرة تطرق جدار رأسه ليلاً ونهاراً .. فهو بحاجة الى تحقيق الأماني خاصة و إن ثياب الفقر على قياسه تماماً، ومستحيل دون تدخل السماء أن يتم إنقاذه من هذا العسر المركب… لأنه في الحقيقة مجرد شاب في المكان الخطأ وفي الوقت الخطأ… و منذ ولادته المتعسرة قال له الحظ يوماً: "مرحباً بك معي في الإحباط…"
في هذه الاجواء عرف بأن اول شيء منطقي هو الجنون ،وسوف يجربه مع معشوقته ، ولكن أين يجد النافورات في هذه القرية العاريه، البعيدة جداً عما يسمى بالحضارة؟ ؟.. وهو محبوس هنا في هذا الركن القاتم من الحياة ، قالوا له : " عليك تكرار هذه التعويذة… و ستضحك لك الدنيا.."
وبقيت التعويذة عالقة في رأسه، عالقة في قلبه وكل جسده لكن من أين له قطعة النقود هذه ليقذفها في النافورة؟!
ثم أردف "أين هي النافورة اصلاً ..؟ لا نافورات اطلاقاً ولم اشاهد واحدة منها في حياتي "
هو رغم فقره وعجزه الا آنه واسع الخيال، و ربما كان عابثاً ايضاً فقد لاحت له صورة البركة على اطراف قريته، ذهب الى هناك ليستطلع الآمر اولاً ثم لإطفاء الحر اللاهب ثانية… واعترضته فجأةً فكرة مجنونة :"ما المانع أن نذهب انا واياها نحو بركة القرية ؟ ربما تباركنا نحن الإثنين معاً٬ و نرمي بدل قطعة النقود حجراً… "
ثم أردف مقهقهاً مع نفسه " من منا لم يكن احمقاً في مثل هذا السن؟.."
تمدد على التراب الرطب واغمض عينيه ونام، ثم ترك مخيلته تذهب بعيداً..
هذه هي البركة المباركة، الأرض والسماء يحيطان بها… نظر الى الماء فرأى وجهه يهتز… تدفقت في ذهنه وعبر الأحلام فكرة أن يتواريا عن القوم… يأتيا إلى هنا و يغطسا جسديهما في الماء ويدعوان الله الستر وتحقيق الأماني…
ها هو يسير في الماء ويتحدث الى صديقته :" ما حولنا هو صعب وقاس، لكننا نملك بعضنا البعض في هذه البركة المباركة "
قبل ان يدخلا الماء طبعاً، القيا الحجارة مرات ومرات، ورفعا وجهيهما صوب السماء يتمتمان، ثم قررا في لحظة طيش آن ينزلا داخلها
يبدو أن الأوهام اكثر إقناعاً … دخلاها مسرورين فرحين وكأنهما يبحثان عن الحب في قاع البركة فقالت له حبيبته:" لم المس شيئاً بهذا الجمال من قبل"
فأجابها :" انا اعتقد إن هذا اليوم سينتهي بكونه اليوم الأفضل في حياتي"
من الجيد أن يكون لك أحلام٬ ولكن لا شيء هنا حقيقي هذا هو الآمر…
إنما هذا التجلي هو سراب لا غير… وعبر الأحلام.
إن هذه البهجة والسعادة التي يشعر بها ألان طالما اخافته، سيما وإن والدته كثرما قالت له :" وراء الضحك والفرح طالما يأتي الحزن."
هذا هو الشعور السيء يلوح امامه .. ثم تناسى وجه امه، ثمة سرب من الطيور تعدى فوقهما، حيث القت نظرة سريعة على المخلوقين المغمورين في الماء وتابعت طيرانها ولم تنزل تشرب الماء.
هو وهي ظلا غاطسين في الماء والطين متبركين بقطرات مياهها غير مباليين تماما ٠
الحرية والواقع يتصادمان دائمًا … الفرح والخوف يسكنان الطابق عينه ، وفي طرفة توقف قلبه عن الخفقان وهو يرى نفسه محاطاً بأهل القرية ، تقريباً كلهم … والآن يمر الموت فوقهما…وإن الثواني هي أبطأ وحدات الزمن في حياته ٠
أغرق نفسيهما ، وأختلط أنينهما بطين البركة وأحسّا بأن الماء يغلي تحتهما
ويحرق جلديهما ، إمّا عشيقته باتت كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة خجلاً و خوفًا
وهي تنثر الماء وتقاوم وتحاول الاستغاثة بصاحبها ٠
عليه الآن تحمل أوزار ذلك الفعل الأرعن … وعليه أن يبقَ هادئاً …عليه أن يأخذ نفساً عميقاً ، و بدأت روحه تحدثه : “ كن طبيعياً ، فقط لا تذعر …أبطء كل شيء … حتى دقات قلبك … لاتبالي بتلك الجموع المتحولقة حولك … أنسجم مع نفسك ، لا تبدو مملاً مكسورا … تأكد من عدم وجود أيّ رد فعل على وجهك ، حاول أن ترى نفسك من خلال أعينهم الغاضبة ، عندما تجد نفسك في قلب العواصف مثل الآن عليك فقط أن تتنفس ، شهيق عميق وزفير طويل … دع الأمر يمضي ، إن هذه ليست النهاية ، هناك عالم آخر لكليكما … وسيرى بعضكما البعض …ستلعبان و تلهوان ، و ترقصان ، فأن كونك لا تفعل شيئاً وتقاوم سيجعلك كالأموات ٠
قالت له مرتعبة : “ ماذا تفعل الآن ؟ أخبرهم أيّ شيء … فأجابها :
“ مهما أقول لهم ستكون مجموعة أكاذيب ستختفي في هذا النور …
ثم تمتمت : “ يالخزيّ … إنها أحلك أيام حياتي …
لقد ضاع كل أمل ، أختفت السعادة الموعودة …ولايوجد مستقبل ، هذا هو الحاصل الآن إن بقيا على قيد الحياة …ثم قال لنفسه :
“ أن تكون جباناً لدقيقة أفضل من أن تكون ميتاً لبقية حياتك ٠
العالم حوله يهوي إلى الفوضى ، والناس أهل قريتهم بالكامل متجمهرون حولهما ينظرون اليهما بشراسة وغضب … الخجل والشعور بالذنب ساحقا بالنسبة له الآن وإنه يريد للتو معاقبة نفسه بشدة ،حتى فكّر بأن يُنهي حياته ، وهو عاجز تماما وليست له أيّة حلول ولو يعرف تعويذة تجميد الوقت لفعل… حاليا هو شخص مُريع و يجب ألأ يقنع نفسه بغير ذلك ٠
التفتت اليه الفتاة وقالت : “ لقد أخذت مني كل شيء … كرامتي ، سمعتي و حياتي تدمرت بسببك ٠
بالكاد هو يستطيع الوقوف وسط البركة ، امّا هي فقد أقسمت بان لاتدخل نهرا أبدا ، و أقتنعا أخيرا بأن البركة لاتعطي الأماني مجاناً فها هو أجتياح الناس عليهما متوعدينهما بالويل والثبور ، وصوت رهيب ينبعث من أعماق الماء يصكّ الاسماع :
“ من يقع فيي الوحل يصبح قذراً …
موعد متهور يتحول الى لقاء سيء … وشرف دموي في أنتظاره … وقبل تنفيذ الحكم عليه عشائرياً أحسّ بأن شيء ما يبصق عليه ، فأنتبه فإذا به بُراز أحد طيور السرب المتعالي في السماء … أستيقظ مذعوراً فوجد نفسه وحيداً على حافة البركة المباركة فعاد مسرعا إلى البيت …

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق