أبحث عن موضوع

السبت، 28 أغسطس 2021

اَلرِّحْلَةُ الْأَخِيرَةُ .............. بقلم : العلمي الدريوش - المغرب

( لغة تفتش عن بنيها وعن راويها
تموت كمن فيها وترمى في المعاجم.)
محمود درويش
كُونِي مَاءً رَحِيماً يَا لُغَتِي
أَوْ كُونِي جَنَاحاً صَغِيراً
لِنَحْلٍ أخِيرٍ يُحَلِّقُ فِي رِئَتِي..
قَدْ أَزْهَرَ الْحَرِيقُ دَاخِلِي،
وَالبَيْنُ يَمْتَصُّ مَا تَبَقَّى مِنْ هَوَاءٍ شَقِيٍّ
وَيهْمِسُ بِالرَّحِيلِ فِي شَفَتِي.
فَاسْرِجِي مَتْنَكِ لِي غَمَامَا..
لَمْ يَبْقَ إِلَّا الرَّحِيلُ يَا لُغَتِي..
وَالطَّرِيقُ وَاحِدٌ
هُوَ نَفْسُهُ الطَّرِيقُ،
لَكِنَّ الْوِجْهَةَ تَخْتَلِفُ..
تَخْتَلِفُ الْوِجْهَةُ تَمَاماً تَمَامَا..
كُلَّمَا ضَاقَتِ الفِكْرَةُ
تَجَنَّحَتْ بَيْنِي وبَيْنَكِ الْعِبَارَة.
* * *
لَمْ نَرْكَبْ خَيْلَناَ كَيْ نَعُودْ..
أَحْرَقْتُ خَيْمَتِي
وَالْحِبَالَ وَالْأَوْتَاد ،
وُكُتُبَ الْاَمْثَالِ وَالْأَشْعَار،
وَالْوَصَايَا الْقَدِيمَةَ،
وَالنَّوَادِرَ وَالْأَخْبَارَ وَالْأَسْفَار..
أَحْرَقْتُ أَنْسَاقَ فَلَاسِفَةِ الْعَدَمِ وَالوٌجُودْ..
أَحْرَقُتُ كُتْبَ فرُويدَ فِي الْمَرْقَصِ اللَّيْلِيِّ،
وَعَلَّقْتُ بِبَابِهِ رَافِعَاتٍ لِلنُّهُودْ..
تَرَكْتُ وَطَناً فَارِغاً..
لَا صَوْتَ يَعْلُو فِيهِ فَوْقَ شَارَاتِ الْجُنُودْ.
تَرَكْتُ الْكِنَاسَ وًالْغَزالَ وَالْمَهَا..
وَالبَاحِثِينَ فِي الْبَيْدَاءِ عَنْ أَثَرٍ لِلظّعَائِنِ..
وَمَا يَعْشَقُهُ العَابِرُونَ لِلْحُدُودْ..
تَرَكْتُ امْرَأَ الْقَيْسِ أَمَامَ دَنِّهِ وَصَحْبِهِ
يَبْكِي الْحَبِيبَ وَالدِّيَار..
ثُمَّ يَخْرُجُ لِلصَّيْدِ وَالْعَذَارَى
وَالطَّيْرُ فِي وُكْنَاتِهَا سَاعَةَ السَّحَرْ..
تَرَكْتُ الْغَرِيبَ نِِيتْشَه
لِوَحْدِهِ فِي الْعَرَاءْ؛
يَعُدُّ مَا تَبَقَّى فِي الْقَطِيعِ،
وَينْحَنِي خَاشِعاً لِذَاِتهِ
كَأَنَّهُ إِلَهٌ ثَائِرٌ يَعْبُدُ الْبَشَر..
تَرَكْتُ الْكُولُونِيلَ فِي عُزْلَتِهِ؛
يُكَاتِبُ غَارْسِيَا مَاركِيزَ* فِي الخَفَاء..
يَفْتَحُ بَرِيدَ الْقَلْبِ
وَيرْقُبُ الْخَبَر..
تَرَكْتُ أَبَا الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي فِي حَلَبْ
يَصْرُخُ "وَاحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ"
قَلْبِي انْفَطَرْ..
وَيَكْتُبُ آخِرَ مَرْثِيَّةٍ لِتَارِيخِ الْعَرَبْ.
* * *
اَلرِّحْلَةُ الأَخِيرَةُ لَا تَنْتَهِي؛
كُنْتُ كَمِسْبَارٍ يَفُكُّ أَجْزَاءَهُ كَيْ يُوَاصِلَ الْمَسِيرْ..
يَحُومُ وَحْدَهُ فِي الْفَضَاء
وَيَرْقُبُ الْكَوَاكِبَ فِي الْبَعِيد.
كُنْتُ لَا أُطِيقُ مَا تَبَقَّى فِي الْجَسَد..
نَزَعْتُ سَاقِي،
أَلْقَيْتُ بِهَا فِي الْهَوَاء..
فُشُكْراً لُغَتِي..
لُغَتِي مَنْ تَحْمِلُنِي أَنَّى تَشَاء.
بَكَتْ مِنَ الْعَيِّ شَفَتِي..
فَصَاحَتِ الْأُذْنُ بِي:
أَنَا مَنْ يُوَاصِلُ الْكَلَام،
لَيْسَ السَّمْعُ وَحْدَهُ مِهْنَتِي..
أَنَا مَنْ يُكَلِّمُ الْهُدُوءَ وَالظِّلَالْ،
أَنَا شَفَةٌ أُخْرَى لِلْكَلَامِ الَّذِي لَا يُقَالْ..
أَنَا لَحْنُ مَعْنَى الْمَعْنَى بِلَا صُوَرْ..
وَفِي كُلِّ دَوْرَةٍ نَدُورُهَا
تَسْقُطُ مِنْ خَلْفِنَا أَجْزَاء..
كَمَا تَسْقُطُ الْقَوَافِي مِنْ طَوَابِقِ النَّشِيد
إِذَا خَانَهُ نَبْرٌ أَوْ تَصَدَّعَ الْوَتَرْ.
* * *
فِي الطَّرِيقِ الَّذِي لَا يَنْتَهِي،
جَاعَتَ كَذِئْبَةٍ مُرْضِعَةٍ فِي البَرَارِي لُغَتِي..
لَكِنّنَا،
مِثْلَمَا يَأكُلُ النَّايُ مِنْ صَوتِهِ
إِذَا خَانَهُ النَّفِيخُ،
كُنَّا نَأْكُلُ بَعْضَنَا..
كَيْ يَصْمُتَ عَنْ صَفِيرِهِ السَّغَبْ.
كُنَّا نَشْرَبُ قَهْوَةً مَالِحَةً مِنْ كَأْسِ الْوَرِيد..
كَيْ نَطْرُدَ التَّعَبْ..
فَالرِّحْلَةُ طَوِيلَةٌ
وَلَا حَدَّ لِلسَّفَرْ.
* * *
اَلرِّحْلَةُ الْأَخِيرَةُ كَادَتْ تَنْتَهِي،
وَالْجَدِيدُ يَلُوحُ فِي الْبَعِيدِ كَالْقَدِيم..
لَا بِحَارَ تُغْرِي بِالْوُقُوفِ وَلَا سَمَاءْ..
وَاللُّؤْلُؤُ وَالتُّرَابُ وَالظَّلَامُ وَالضِّيَاءْ..
كُلُّهُ أَضْحَى كَالزَّبَد.
صَارَتْ تَخْتَفِي الْكَوَاكِبُ مِنْ حَوْلِنَا وَالنُّجُوم..
لَكِنَّنَا،
خَرَجْنَا وَلَنْ نَعُودْ..
وَحْدَهُ السَّدِيمُ يُفْضِي لِلسَّدِيمْ..
وَالْوَرَاءُ يَدْفَعُ لِلْأَمَامِ
وَالْأَمَامُ يَدْفَعُ لِلْوَرَاءْ..
أَنَا لُغَتِي،
لُغَتِي أَنَا،
لَنْ نَشْحَذَ الْوُجُودْ..
لَنْ نَعُودَ لِلْجَسَدْ..
* * *
تَنَاهَيْنَا فِي الْمَدَى الَّذِي لَا يُحَدّ..
فَصَاحَتْ بِي لُغَتِي:
اَلرِّحْلَةُ آذَنَتْ بِالْإِنْتِهاءْ؛
أَنْتَ الْآنَ حُرٌّ طَلِيق،
أَنْتَ الْآنَ فِي دُنًى غَرِيبَة
لَا يَنْبُتُ فِيهَا مَكْرٌ أَوْ حَسَدْ..
أَنْتَ مِثْلِي يَا صَاحِبِي فِي غُرْبَةِ الْأَبَدْ..
وَحَيْثُ الصَّمْتُ لَا يُشْبِهُ ذَاتَهُ..
سَمِعْتُ خَلْفِي شَهْقَةَ الْوَلَدْ:
عُدْ يَا أَبَتِي،
أَنْتَ مَنْ يَشْتَرِي كُتُبِي غَداً..
عُدْ يَا أَبَتِي،
قَبْلَ أنْ يَرْحَلَ الْْأَحَدْ.
هامش :
* غابرييل غارسيا ماركيز : صاحب رواية " ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" .
التخطيط المرفق: مختار حسانين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق