أبحث عن موضوع

الخميس، 19 نوفمبر 2020

كائن طويل العمر(قصة قصيرة) .............. بقلم: فيصل سليم التلاوي _ فلسطين

 


مثل من يقرع باب خزانة الحكمة ويقف أمامها منتظرا أن تكشف له عن أسرارها سأل عمار جده:

- أي الحيوانات أطول عمرا يا جدي ؟

أجاب الجد مداريا حيرته أمام السؤال المباغت.

- ومن أين أتيت بهذا السؤال ؟ هل سألك إياه أحد، أم هو من عند نفسك؟

- بل هو من عند نفسي يا جدي . خطر ببالي أن عمر الحيوانات يتناسب مع حجمها ، فيكون الجمل طويل العمر بينما الأرنب قصير الأجل مثلاً.

- لست متيقنا من ذلك يا بني ، لكنني أعرف واحدًا من بينها يعيش ثلاثة أعمار وربما كان هو أطولها عمرًا.

- ثلاثة أعمار يا جدي ؟ كيف يكون ذلك ؟

-هل يموت في نهاية كل عمر ويبعث من جديد مرة أخرى قبل يوم القيامة؟

-لا يا ولدي . إنه لا يموت إلا مرة واحدة في نهاية عمره الأخير .لكنه يحيا على ثلاث هيئات متتابعة .

-كيف ؟ أخبرني ؟

-يبدأ هذا الكائن يا ولدي عمره الأول غزالاً رشيقا ، جميل الهيئة . يجوب البلاد سهلها ووعرها ،يمتع ناظريه وبدنه بما لذ وطاب. لا يجاريه في عدوهِ مُجارٍ، ولا يدانيه في بهاء طلعته حيوان آخر، ويمتد عمره على هيئة الظبي الجميل قرابة عشرين عامًا أو يزيد.

لكن طبعه الملول يجعله يسأم هذه الحرية التي لا حدود لها ، وهذا التجوال المستمر في البلاد ، فيطمح إلى الاستقرار في ملاذ آمن ، ويتمنى أن يبدل الله تطوافه سكنًا واستقرارًا في مرتع خصيب .

-لكن الاستقرار والهدوء لا يناسبان طبع الغزال .

صدقت يا ولدي ، ولهذا يحوله الله إلى هيئة أخرى تناسب طموحه الجديد .

كيف يحدث ذلك يا جدي ؟

في ليلة أكثر الغزال فيها من التضرع لخالقه أن يهبه الأمن والراحة والسكون وقد اطمأنت نفسه إلى أن دعواته قد صادفت ساعة إجابة ، يخلد بعدها إلى النوم هانئا قرير العين، لا يوقظه من نومه مع انبلاج الفجر إلا نهيقٌ يملأ المكان .

- نهيق حمار!

- نعم يا ولدي . نهيق حمار ، ويفزع الذي كان غزالاً بالأمس متلفتاً يمينا ويسارا باحثًا عن الحمار صاحب النهيق ، فلا يجد في الحظيرة غير نفسه ، وسرعان ما يلاحظ أن النهيق لا ينبعث إلا عندما ينفرج فكاه ، فإذا أطبقهما توقف النهيق .

- صار الغزال حمارًا يا جدي ؟

- نعم. لقد استجاب الله دعاءه . الهدوء والسكينة من طبع الحمير ، ومن لوازمهما الصبر وقوة الاحتمال.

يمضي عمره المديد الذي يقارب ضعف عمره السابق في حرث البساتين وحمل الأثقال واستخدامه للركوب ، وتحمل الوخزات المؤلمة عند اجتماع قائمتيه الأماميتين، وعلى جانبي قفاه.

كلما خطر بباله أن يدعو ربه ليغير هيئته إلى صورة أخرى ، خشي أن تكون أسوأ من سابقتها جزاء له على تقلب مزاجه ، ورفضه للنعمة الأولى التي كان يتمتع بها .

لكنه لما آن أوانٌ ضعفت فيه همته، وخارت قواه، ولم يعد يطيق الحرث وحمل الأثقال كسابق عهده ، لم يجد بدًا من التضرع لخالقه أن يبدله هيئة أخرى تعينه على مواجهة أيامه الباقية وتمنى أن تكون أفضل من هيئته الحالية ولو قليلاً.

- وهل استجاب الله دعاءه مرةً ثانية؟

- نعم. لقد منحه الله فرصة ثالثة وأخيرة .

- إلى ماذا تحول هذه المرة ؟

- ألح في الدعاء، ثم أوى إلى مربطه لينام ، لكنه لم ينم قرير العين هذه المرة فقد جافاه النوم ، فأمضى ليلته يقظًا متخوفًا مما أصابه في المرة السابقة، وخشي أن تكون الهيئة الجديدة أدنى من الهيئة الحالية .

- وماذا حدث يا جدي ؟ هل تحول الحمار إلى جمل ؟ هيا قل .

- قبل طلوع الفجر كان نباحه يملأ جنبات الحي ، وهو مُقعٍ على قائمتيه الخلفيتين ، وقد استحال إلى هيئة كلب هزيل لا يعيره أحد انتباهاً.

أدمن بقية عمره على نباحه المتواصل، بينما المارة يرمقونه شزراً بأطراف عيونهم، وهو يبصبص بذيله ، ملتصقاً بالأرض . وما يزيده غيظاً أن نباحه لا يفزع أحدا ، حتى الأطفال الصغار .

- لماذا لا يعضهم ؟

- جرّب أن يفعلها مرةً، فقد تذكر أن الكلاب تغرز أنيابها ولو مرة واحدة تصنع بها لنفسها هيبة ومكانة .

- وماذا حدث ؟

- اختار طفلاً ليجرب به عضته الأولى ، ظاناً في نفسه الحكمة والخبرة ،وأن سطوته على الصغير ستخيف منه الكبير .

-يا للطفل المسكين ؟

- اطمئن يا ولدي، فما أصابه مكروه أبدا، فبعد أن أطبق الكلب فكيه على مؤخرة ساق الطفل محاولا نهشها،عندها فقط أدرك أن فكيه لا تحملان أنيابا ولا أسنانا. فليس ثمة سوى لثة نخرة متآكلة تألمت من أثر العضة أكثر مما تألم الطفل المعضوض .

اعترى الطفل بعض الخوف ، بينما واصل الكلب نباحه المعتاد وإن كان صوته قد ازداد وهناً على وهنٍ.

- أي حيوان هذا ؟ وبأي عمر من أعماره الثلاثة نسميه؟

- إن له اسمًا يليق بمواهبه المتعددة.

- ما هذا الاسم يا جدي ؟ قل لي .

- لا يا ولدي . دع ذلك لغزاً تحله بنفسك ، يجب أن تترك مجالا لخبرتك وتجاربك وعندما تهتدي إليه في مستقبل أيامك ، يومها يحق لك أن تقول :

- لقد حللت لغز  جدي .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق