أبحث عن موضوع

الأحد، 18 أكتوبر 2020

بيدي لا بيد عمرو (قصة قصيرة) .......... بقلم : فيصل سليم التلاوي _ فلسطين





لم تكن هذه هي المرة الأولى التي ينسى فيها أبو خليل غرضًا قصد سوق المدينة من أجله ،أو التي يضل فيها طريقه ويخطئ هدفه، فقد تتابعت عليه مثل هذه الحالات في الأشهر الأخيرة رغم حرصه على كتمان الأمر عن أقرب الناس إليه.

إنه يكابر ويصر على أنه لا يزال يحتفظ بذاكرته الخارقة التي يشهد له بها كل معارفه. إنه يرد من فوره على مسمعك إن سألته عن تاريخ ميلاد أي من أولاده أو أحفاده،أو رقم أي هاتف أو لوحة أي سيارة تخص واحدًا من معارفه لم يحفظ صاحبها رقمها. ولا ينسى أن يذكرك بأيام زمان،و بأول حصة ألقاها في حياته الدراسية المديدة،وكيف عمد إلى عمل امتحان تجريبي لقياس مستوى طلابه. و بينما كانوا منهمكين في الإجابة كان يتلفت بطرف عينيه يمينًا وشمالا أثناء تجواله بينهم مركزا نظره على أسمائهم التي دونوها على رؤوس أوراقهم دون أن يشعروا، ليذهلوا أثناء المناقشة التي أعقبت جمع الأوراق ووضعها جانبًا وهو يخاطبهم بأسمائهم واحدا واحدا . ما نسي متطرفا في ركن قصي،ولا ساكنا قليل الحركة عازفا عن المشاركة إلا ناداه باسمه.

كانت وجوههم تطالع بعضها بعضا،وقد اعترتها دهشة وحيرة عجيبة:

- من أين لهذا الذي يطالع وجوهنا لأول مرة أن يعرف أسماءنا جميعاً؟

ولا يفوته أن يذكرك بأسف بعض زملائه لاتخاذه التدريس مهنة له،و يعقب بقول الزميل:

- لو كنا في بلاد تقدر المواهب،وتختار الرجل المناسب للمكان المناسب لاختاروا لك موقعاً في أحد الأجهزة الأمنية الحساسة التي تتطلب حافظة نادرة للأسماء والملامح والأماكن والمواقف.

فما الذي اعترى ذاكرة أبي خليل هذه الأيام؟هل صدئت إلى هذا الحد الذي لم يعد يستدل فيه على موقف "السرفيس"أو الباص المؤدي إلى بيته؟ والأدهى من ذلك أنه لم يعد يتذكر الحي والشارع الذي فيه بيته لو رغب في أن يستقل سيارة "تكسي" فماذا سيقول لسائقها:

أريد أن توصلني إلى بيتنا!إن طفلاً صغيرا لا يطلب طلبا كهذا.

وقف مطرقا في مكان ظليل على جانب الرصيف. أجهد نفسه في محاولة التذكر،أخرج مفكرته من جيبه وقلب صفحاتها لعله يعثر على العنوان . لكن من الذي يخطر بباله أن يسجل عنوان بيته بالشارع والحي مخافة أن يضل طريقه إليه؟

لم يجد سوى رقم الهاتف.هل يتصل بالبيت؟وماذا سيقول عندما ترد زوجته أو أحد أبنائه؟

- لقد ضللت طريقي إلى البيت؟!تعالوا لتأخذوني؟!

تذكر أبو خليل هيبته الآفلة،و قناع الصرامة الذي ارتداه عمره كله، والذي كان يهابه به، و يجله كل أهل بيته من زوجة و أولاد وزوجات أولاد وأحفاد، وحتى الجيران. وكيف سينقلب ذلك كله رأسا على عقب عندما تتقافز الهمسات من أذن إلى أذن بأن أباهم وجدهم قد ضل طريق العودة إلى البيت،و ما يعقب ذلك من تساؤلات و نظرات تمعن التأمل في هيئته وملامحه وتتطاول إلى حد اتهامه بالخرف وفقد الذاكرة،همسًا في بادئ الأمر،لكنها لا تلبث أن تصل إلى مسامعه بادئة من أفواه بعض نساء أولاده التي ستتجرأ على قولها. إن لم يكن في وجهه ففي وجه زوجها:

- والدك خرف،ولم نعد نأمن زلات لسانه على أنفسنا وأولادنا وبناتنا. إنه لا يعي ما يقول، والأنسب له و لكم أن تودعوه دار الرعاية الاجتماعية للمسنين.

تداعت هذه التهيؤات والرؤى إلى مخيلة أبي خليل كأنه يراها رأي العين واقعة في يوم قريب.

عبر الشارع بخطوات متثاقلة صوب مقهى على الجانب الآخر. جلس في ركن قصي وطلب فنجاناً من القهوة و سرح بعيدا ينبش في غور ذاكرته من جانب لعلها تسعفه في تذكر عنوان البيت، و يرخي العنان من جانب آخر لتصور مستقبل أيامه، و ما ستؤول إليه حاله أمام هذا الزائر المفاجئ العنيد الذي بات يلح عليه ويعاوده بزيارات متتالية و ليست متقطعة كسالف عهدها.

والذي يثير العجب في نفس أبي خليل أنه يجد نفسه واعيًا كل الوعي لحالته،يشخصها ويبحث عن حل مناسب لها كأنه شخص محايد تماما.

- لقد داهمتني كثيرا في الفترة الأخيرة حالات فقد الذاكرة للأشخاص والأماكن. لكن الغمة كانت تنجلي بعد قليل من التذكر،أو بعد الخلود إلى قليل من السكينة أو تناول فنجان من القهوة أو لعن الشيطان الرجيم.

لكنها لم تطل أبداً إلى مثل هذا المدى، ولا وصلت إلى حد نسيان طريق العودة إلى البيت. وهي لا بد آخذة في الازدياد،ولن تفلح بعد اليوم محاولاتي في مداراة الأمر والتكتم عليه،وإن أهملت الأمر وتركت نفسي لمصيرها فإنها ستصل يوماً إلى حد الإفصاح عن نفسها جهارا بارتكاب فعل مشين،أو التفوه بقول فاضح يعرض أولادي وأسرتي لحرج بالغ .

و تذكر أبو خليل أيام صباه وحكايات جده"أبو العبد" وتعلقه به وكيف كان يؤثره على سائر أحفاده.

- كان جدي متعافيًا سليم البدن مستقيم العود،يسبقني في مشيته،و كنت أجهد نفسي في محاولة اللحاق به والسير بجانبه رغم أنه قد ذرف على الثمانين. ومع كل حنان جدي وأحاديثه الشيقة فقد كانت تمر به ساعات من فقد الذاكرة بعضها مسل ومضحك لنا نحن الصبية الصغار، عندما نطلب منه أن يحكي لنا حكاية من حكايات أيام شبابه التي أعادها على مسامعنا عشرات المرات، دون أن يعي أنه قد رواها قبل لحظات. ولعل أشهرها وأكثرها التصاقا بالذاكرة اليوم حكاية الذهبات الثلاث التي حصل عليها أجرة حصاد موسم كامل في "حوران"، و بينما هو في طريق عودته إلى فلسطين نُمِي إلى علمه و هو بنواحي" البلقاء" أن قطاع طرق يسلبون المارة ما لديهم من مال و متاع قد نصبوا كمينًا لهم بجانب الجسر العتيق القائم على نهر الأردن. فما كان من جدي إلا أن ابتلع ذهباته الثلاث حتى إذا اجتاز موطن الخطر أتبعهن بجرعات من زيت الخروع لترن ذهباته ثانية إثر سقوطها تحته مصطدمة ببعض الصخور.

لكنه كان أحيانا يعمد إلى بيوت الجيران فيوسعهم شتما و سبابا قبيحا يخجلنا نحن الصبية الصغار من أحفاده. و كم كان والدي وسائر الأقارب يجهدون أنفسهم في كبح جماحه و إعادته إلى المنزل وهو يهدر في شتائمه كأنه عائد من معركة .

تذكر أبو خليل كل ذلك، وأيقن أن مصير جده الذي وعاه طفلا قد بات يحاصره ويقعد له بالمرصاد ،لكنه لا يزال يمسك ببقية من خيط واهٍ يمكن له أن ينقذ به نفسه وأهل بيته قبل فوات الأوان .

لم يسعفه الوقت الذي أمضاه في متابعة خطى السابلة حينا ، ومتابعة لاعبي "الزهر" و"الدومينو" على الطاولات المقابلة حينا آخر، ولا أفلح الخلود للراحة ولا فنجان القهوة في استحضار ذاكرته.

فلما طال عليه ذلك، و أعيته الحيل لم يجد بداً من اتخاذ قراره الحاسم. نهض من فوره وهو يتمتم :- بيدي لا بيد عمرو.

غادر المقهى صوب رصيف الشارع حيث أشار لأول سيارة أجرة . تعمد الجلوس في الجانب الأيمن من المقعد الخلفي كأنه يداري قسمات وجهه حتى لا يلمحه السائق وهو يقول:

- إلي دار المسنين يا بني .

أنهى إجراءات الدخول للدار بسرعة ولم ينس أن يهاتف زوجته معتذرا عن تأخره الذي قد يطول بسبب لقائه بعض أصدقائه القدامى، وأنهم سينظمون رحلةً مشتركة قد يطول أمدها . كما وعدها أن يلقاها يوم غدٍ في سوق المدينة لوداعها وطلب منها أن تحضر له بعض ملابسه.

أخبرها عند اللقاء بحقيقة الأمر وضرورة كتمانه عن الأولاد وزوجاتهم حفاظا على مظهرهم و مكانتهم ، و أن تفهمهم أن والدهم سيغيب في سفر طويل، ورجاها أن لا تزوره إلا لماما حتى لا يثير ذلك شبهةً لدى الأولاد.

امتثلت لرغبته مثلما اعتادت أن تفعل دائما. ودعها و أدار ظهره مرةً واحدة ، وما التفت وراءه بينما ظلت نظراتها تتبعه حتى غيبه الزحام .

فيصل سليم التلاوي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق