أبحث عن موضوع

الاثنين، 19 أكتوبر 2020

قراءة في نص الشاعر "عارف العبادي" (ترهات) ................ بقلم : حسين عجيل الساعدي // العراق



  (الأفكار ملقاة على قارعة الطريق)

                  "الجاحظ"

(ترهات) 


أيُّها المُهَمَّشونَ

الواقِفونَ على طابورِ النِسْيانِ

لقد تَغَيَّرَ الأمْرُ

عَلَيْكَ أنْ تَغْتَسِلَ

بعدَ كِتابَةِ النَصِّ

مِمّا عَلِقَ فيييييييكَ

ربمَّا تَحْتاجُ إلى ياءٍ أطْوَل قليلاً مِن ياءِ النِداءْ

لِتُدْرِكَ أنَّكَ بِلا مِعْنى في هذا الوُجودِ

فلا تَغْضَبْ

مِنْ تَعَسُّفِ الأمورِ

سَتَجِدُ بَيْتاً مِنْ تَجاوُزْ اوْ اقْتِباس او مَسْروق

او مُعادُ التَدْويرِ.... أو....

عندما تَسْكُنُ فيهِ

أقِمْ صَلاةَ مَوْتِ سَنَواتِكَ المُقَفّاةِ

في آخِرِ الشَطْرَة

سَمِعْتُ أنَّ هُناكَ نَهْراً يَفيضُ نِساءً

لمْ يَغبْ عَنْ بالي تَأْويلُ المَطَرِ

عندما أرْتَعِشُ كُلَّما أصابَني المَلَلُ

في ذاتِ التَكْوينِ

عندما تُرَكِّزُ في الفِكْرَةِ

سَتَعْرِفُ انَّكَ نَجَوْتَ مِنَ المِقْصَلَةِ

لتَكونَ مِهْزَلَةً بِعُمْرِكَ الإفْتِراضي

تَرَيَّثْ قليلاً و أنتَ تُحَدِّقُ في النَصِّ الأنْثَوي

حينَ يَنْبَحُ قَلْبِكَ بِالشَبَقِ

ضَعْ شَيْئاً يَدُلُّ عليكَ

مثلاً ضَعْ  إصْبَعَكَ الأحْمَرْ

واعْلِنْ عَنْ خَجَلِكَ باِلعُمْقِ

أعذُرْني

أنا لَمْ أرَ الطَريقَ

أثْناءَ مَوْتِكَ


قد يكون الشاعر "عارف العبادي" تناول الواقع بلغة شاعر متمرد، يمتلك ناصية اللغة المشحونة، برؤية غير مألوفة، رؤية (فانتازيا سريالية)، سواء أنتمى إلى هذا الواقع أم رافضاً له.

ماذا يريد أن يقول لنا الشاعر "عارف العبادي" من خلال نصه (ترهات)؟، هل هو نص عبثي أتى به من فراغ أم من خلال رؤية يعي ما يقول؟.

النص يحاكي حالة الصراع النفسي للشاعر ويظهر جدلية هذا الصراع، فقد أتى بصورة مختلفة من خلال المنهج والأسلوب، يعكس وعي الشاعر ونزعته التشاؤمية التي تحط من قيمة العقل الجمعي وضخامة المأساة، والتركيز على أزمة الإنسان، التي تتسم بالـرفض والتمرد، فيجعلنا نلهث وراءه لمتابعة أحداثه في محاولة أستدراجنا الى لغة النص وأستخراج مخزونه الأنفعالي، من أجل سلوك طريق جدلي تحفيزي لأفكار المتلقي، لغرض أستقطاب المعنى في النص، وأزالت الغموض عن عتمته. الشاعر والناقد الفرنسي "بول فاليري" يصف هذا المعنى بقوله: (إنّ الأفكار في الشعر خفيّةٌ كالغذاء في الثمر، فالثمر مُغَذّ، إلا أننا لا نتلقّاهُ إلا لذيذاً، وهو يفتنُ بِما يُخفي ذلك الغذاء). 

الشاعر "عارف العبادي" أشتغل في نصه على عدة ثيمات ذات مكونات حقيقية، وبأشكال وتراكيب ولغة ودلالات متعددة، لا تخلو من السخرية، حين يرى فيها العالم مقلوباً في السلوك، من خلال صور شعرية، يعطيها طابعاً خاصاً، ذات دلالات تجريدية، وظفها كأداة في أكثر من موضع، تعكس نفسيته الباحثة عن إثبات ذاته، التي تحكم شخصيته، وأدائه الشعري التعبيري المشاكس، كاشفاً بها عن أنزياح في أبعادها.

النص الشعري هو فن صناعة الدهشة، والعنوان علامة سيميائية وضعت في شكل فني مدهش ذي دلالات تجريدية، يدخلنا منذ البدء الى عوالم النص، يمكن من خلال العنوان  قراءة النص. 

قد تكون دلالة لفظة (ترهات) المتكونة من مقطعين (تر / هات)، المعنى المجازي وليس المقصود بها المعنى الحقيقي أو هي تمثل هدفه وغايته؟، فهي ليس مجرد لفظة تقال للأعلان، لكنها لفظة مختصرة كثيفة ذات مدلول، تحتاج تحليلاً سيميائياً تأويلياً، نتجنب به الأغراق في التأويل، والعثور على المعنى المغيب في اللفظ الذي يقودنا الى فهم حقيقة النص المستتر خلف معنى العنوان. الترهات (الأباطيل) في رأي الشاعر هو اقرار بفضح المسكوت عنه، بما يمتلكه من جرأة كبير.  

ال(تُرَّهات مفرد تُرَّهَة، الأباطيل "إيّاك والانصياع للترهات"، قول أو عمل تافه مُزخرَف خالٍ من النّفع).

يمكن الولوج إلى عوالم النص من خلال قول الاديب اللبناني "ميخائيل نعيمة" حين يقول: (مَنْ يَنْتَشِلُنَا مِنْ خُرَافَاتِ أَمْسِنَا وَتُرَّهَاتِ يَوْمِنَا). فالشاعر ينادي سكان مدينته؛

(أيُّها المُهَمَّشونَ

الواقِفونَ على طابورِ النِسْيانِ

لقد تَغَيَّرَ الأمْرُ)

لكن المهمشون مازالوا واقفون في طابور النسيان، رغم تغير الأمر. أنهم في وهم وهذيان، بين خرافات الأمس وأكاذيب اليوم، فلن تغادرهم، ترهات الأمس، فهم سمعوا النداء، ولا يحتاجون الى (ياءٍ أطْوَل قليلاً مِن ياءِ النِداءْ)، فهذه حياتهم البائسة؛ 

(بَيْتاً مِنْ تَجاوُزْ اوْ اقْتِباس او مَسْروق

او مُعادُ التَدْويرِ.... أو....).

أن تفكيك إشكالية النص تحتاج الى تأويل يعتمد الفهم أولا، ثم التفسير الذي يعمل على تحليله، والحفر في عمق حيثياته، وفك تشابكه، وتقاطعه، وتعقيداته، والغوص في أبعاده الممكنة، وفهم مدخلاته ومخرجاته الجمالية والفكرية.

لقد نحت الشاعر نصه الشعري بعناية من خلال التكثيف والإيجاز في صياغة لغوية تنتج دلالات الرفض، التي تداخلت في كثير من ثنايا النص، في رسم واقع متردي، سلبياته لا تعد ولا تحصى. واقع عبارة عن ترهات (أباطيل) في رأي الشاعر الذي قرر أن يفضح المسكوت عنه، بما يمتلكه من جرأة كبير.  

( أقِمْ صَلاةَ مَوْتِ سَنَواتِكَ المُقَفّاةِ

في آخِرِ "الشَطْرَة" )

يذهب الفيلسوف الفرنسي "غاستون

باشلار" (1884 – 1962)، (إلى أن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكاناً لا مبالياً ذا أبعاد هندسية فحسب. فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي، بل بكل ما في الخيال من تحيز، إننا ننجذب نحوه لأنه يكثف الوجود)، هذه الرؤية إلى المكان نابعة من وعي الشاعر "عارف العبادي" برمزية المدينة "الشَطْرَة"، التي تحولت من مجرد مكان جغرافي إلى طاقة رمزية، تفتح للشاعر آفاق واسعة، فشكلت ثيمة استلهمها الشاعر، لأنها مهد الحضارة، لها محمولاتها التاريخية والحضارية، أو هي ذاكرته الشعبية، 

هذه عوامل أثرت في تشكيل رؤية الشاعر للمدينة، التي تبقى من صميم أنشغالاته، هذه المحمولات جميعها منصهرة في بوتقة الذات والوعي الجمعي، يستحضرها لتفجير وجعه وأحزانه. 

بعد تأمل في الواقع الذي يعيشه، ورفضه لهذا الواقع، أتخذ الشاعر "عارف العبادي" أسلوباً متميزاً في السخرية منه، لأنه لا يملك إلا أن يشعر بالغضب، لعدم قدرته على تغيير الواقع، فلا يجد ألا اللجوء الى توجيه خطاب نقدي لاذع مملؤ بالسخرية.

(سَمِعْتُ أنَّ هُناكَ نَهْراً يَفيضُ نِساءاً

لمْ يَغبْ عَنْ بالي تَأْويلُ المَطَرِ

عندما أرْتَعِشُ كُلَّما أصابَني المَلَلُ

في ذاتِ التَكْوينِ

عندما تُرَكِّزُ في الفِكْرَةِ

سَتَعْرِفُ انَّكَ نَجَوْتَ مِنَ المِقْصَلَةِ

لتَكونَ مِهْزَلَةً بِعُمْرِكَ الإفْتِراضي)

(حينَ يَنْبَحُ قَلْبِكَ بِالشَبَقِ

ضَعْ شَيْئاً يَدُلُّ عليكَ

مثلاً ضَعْ  إصْبَعَكَ الأحْمَرْ

واعْلِنْ عَنْ خَجَلِكَ باِلعُمْقِ

أعذُرْني

أنا لَمْ أرَ الطَريقَ

أثْناءَ مَوْتِكَ).


التريث في فهم النص يعني البحث عن ظل المعنى وتجلياته، الذي يحمل النص إلى رؤية الشاعر، (تَرَيَّثْ قليلاً وأنتَ تُحَدِّقُ في النَصِّ الأنْثَوي). من هنا جاء وصف (النَصِّ الأنْثَوي) كعملية تماهي بين الأنثى والنص، ليكشف عن خاصية النص في فهم الذات، لأن غوايات النص تأويل لغوايات الأنثى التي تؤدي إلى غوايات المعنى.

الآن لنا عودة الى المفارقة الغرائبية، التي أوجدها الشاعر "عارف العبادي" والأخذ بنصيحته؛ (عَلَيْكَ أنْ تَغْتَسِلَ بعدَ "قراءة" النَصِّ .. مِمّا عَلِقَ فيييييك)، فالشاعر تحت ضغط نفسي يمارس تطهره من الكتابة في متن النص. وهذه أشارة الى أعادة النظر فيما علق في الأذهان مما أنتجته ألة الأفكار وتطهير العقل من الدرن الخبيث، لأنه في كتابة النص يرى ما لا يراه الآخرون، فهو أكثر وعياً وإدراكاً لحقيقة النص.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق