أبحث عن موضوع

السبت، 5 سبتمبر 2020

أضعف الإيمان / قصة قصيرة ................. بقلم: فيصل سليم التلاوي _ فلسطين




كعادته يُبكر عبد الحميد إلى موعده الدوري في عيادة السكري مرةً كل ثلاثة أشهر، ليظفر بموقف لسيارته أولا، ثم بمقعد يريح عليه بدنه قبل أن تغص صالة الانتظار بالمراجعين، فلا تجد فيها موطئا لقدم. ومع كل حرصه على التبكير الذي يسبق الدوام بساعة على الأقل، إلا أنه يجد عشرات من المراجعين قد سبقوه. يضغط على آلة الترقيم ويأخذ له رقما متسلسلا، وبصعوبة بالغة يجد لنفسه مقعدا بين المقاعد القليلة التي لم تزل خالية.

يسأل عبد الحميد نفسه:

- منذ متى حضر كل هؤلاء؟ وعلامَ يتسابقون مبكرين ما دامت المراجعة تبعا للدور بكل مراحلها؟ مِن أخذ الرقم، فانتظار الكشف الأولي، فمراجعة المختبر، ثم مقابلة الطبيب، فالمحاسبة، ومراجعة الصيدلية لاستلام الدواء، ثم أخذ موعد جديد. كل ذلك يستغرق وقتا بين الساعتين والثلاث ساعات مهما تقدمت في حضورك أو تأخرت.

كان النهار صيفيا حارا ينفث سَمومه من أوله، والريح الهائجة تثير في الخارج غبارا يزكم الأنوف ويلهب العيون.

جلس عبد الحميد وهو يخمن أن ساعة قد تمضي بعد بدء الدوام حتى يصله الدور، ويبدأ خطوته الأولى. اكتظت الصالة بالمراجعين الواصلين تباعا، حتى صار الواقفون أكثر عددا من الجالسين. زادت أنفاسهم وزفرات انتظارهم الجو حرارة وسخونة، لولا مكيف هواء يتيم ينفح الصالة ببعض نسمات باردة رطبة، تخفف قليلا مما يكابده هؤلاء المنتظرون من ضيق ونفاد صبر وحرارة.

طال على هؤلاء الأمد وهم يحدقون في ساعاتهم، ولما تبلغ الثامنة بعد، ليبدأ النداء على الأرقام بالتتابع، عندما نهضت امرأة بدينة من مقعدها وأدارت ظهرها لجميع الحاضرين، وتوجهت صوب النافذة المجاورة لها ففتحتها على مصراعيها، ثم استدارت منتشية مواجهة لجمهور الجالسين، تهف بيسراها على وجهها وصدرها كمن يستمتع باستجلاب الهواء ليبرد به نفسه، وعادت متمايلة إلى جلستها الأولى.

تململ كثير من الجالسين في مقاعدهم، ونظر بعضهم ذات اليمين وذات الشمال، كأن كل واحد يستنكر ما حصل، ويحث جاره ليكون البادئ بالاعتراض، ويقينا أن كل واحد منهم كان يتمتم بينه وبين نفسه:

- ما جدوى مكيف الهواء مع شباك مفتوح على مصراعيه للحر والغبار؟

كرروا تبادل النظرات لكن أحدا لم ينبس ببنت شفة. تجهمت وجوه بعضهم تعبيرا عن استنكارها لما حدث، ولبثت على تجهمها حينا كأنما رأت منكرا وأرادت تغييره، لكنها همست في أعماقها:

- (... فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)

ضاعت نسمات مكيف الهواء أمام فحيح الهواء اللافح الممتزج بالغبار، الذي يأتي من النافذة، وواصل الجالسون تسمرهم على مقاعدهم كأنهم خُشُبٌ مُسنَّدة، وعيونهم مشدودة إلى شاشة تلفاز عملاقة، تقدم تمارين رياضية تعليمية لمرضى السكري، لتساعدهم على حرق مخزون السكر الزائد في أجسامهم.

يؤدي تلك التمارين رجل وامرأة بطريقة فنية جذابة، هي أقرب إلى الحركات الإيقاعية الراقصة منها إلى الرياضة، ويمكن أن يؤديها كل شخص بمفرده في منزله.

كان الجالسون في غاية الانسجام والمتابعة، إذ لا تسلية أخرى يُزجون بها وقت انتظارهم، عندما نهض من وسط الصالة ذلك الرجل بلحيته الكثة، واتجه صوب الشاشة ضاغطا على زر التشغيل ليقفله، ثم ليعود إلى مكانه نافخا صدره منتشيا كأنما هو عائد من غزوة مظفرة.

تململ الجالسون في مقاعدهم، وحرك الواقفون أقدامهم خطوات تبادلوا بها أماكن وقوفهم، ونظر كل واحد يمينا وشمالا، وتشجع بعضهم أكثر من غيره فمد نظره أماما وخلفا، ولم ينبس أحد بنت شفة مرة ثانية، وهمهم كل منهم بينه وبين نفسه:

- ( من رأى منكم منكرا فليغيره....فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).

ظلت العيون مبحلقة في الشاشة المطفأة، ونسيت النافذة التي أشرعت قبل حين. وواصل عبد الحميد رواية مشاهداته لذلك اليوم قائلا:

- لفت نظري مراجع جديد دخل الصالة لتوه، رجل في منتصف العمر، بدت عليه سيماء الرزانة والوجاهة، توجه من فوره صوب الموظفة ليقدم لها ملفه. شدتني نحوه هيئته ومهابته، فأردت أن أصنع له خيرا بأن أدله على مكان آلة الترقيم، لأدخر بعض وقته الذي قد ينقضي قبل أن يأخذ رقما، وقد يسبقه آخرون جاؤوا بعده، فأشرت له صوب الآلة فتجاهل إشارتي، وواصل طريقه صوب الموظفة ليناولها ملفه.

عندما خاطبته الموظفة المختصة:

- خذ رقما وانتظر دورك. أدار لها ظهره.

وعندما أصررت على مواصلة تطوعي في تقديم الخدمة المجانية له، وتقدمت نحوه لأدله على موقع آلة الترقيم، التفت إليَّ بطرف عينه، وأراني الرقم الذي كان يطبق يده اليسرى عليه، وأدار لي ظهره ومضى.

مثله تماما فعلت امرأة دخلت بعده بلحظات، وتوجهت من فورها للموظفة المختصة، وتطوعت امرأة لتقدم لها خدمة فتدلها على آلة الترقيم والدور، مثلما تطوعت قبلها بتقديم خدماتي المجانية للرجل ذي الهيئة والهيبة، فأخرجت لها الرقم من حقيبتها لتريها إياه ثم لتشيح بوجهها عنها.

تعلمت بعدها أن أكف عن متابعة الداخلين والخارجين، وواصلت صمتي.

عندما ردد النداء الآلي رقم 42 ولملمت نفسي للحاق بدوري، كان جاري الذي على يميني، والذي تبادلت معه النظرات المستنكرة مرتين قبل قليل قد نهض أيضا، و بينما توجهت إلى غرفة الطبيب، رأيته يتوجه صوب الشباك المجاور له، فيفتحه على مصراعيه، ليملأ رئتيه بالهواء الطبيعي الآتي من الخارج، وخمنت أن جميع من في الصالة قد عاودوا تبادل النظرات، وربما زاد الجالسون تململا في مقاعدهم، وزاد الواقفون من حركة أقدامهم، ويقينا أن كلا منهم قد حدث نفسه بحكاية أضعف الإيمان. بينما ضاعت نسمات المكيف اليتيم بين سموم الهواء الحار والمغبر، الذي تنفثه النافذتان المشرعتان عن يمينه وشماله، وظلت الشاشة المطفأة تبحلق في عيون المشاهدين الصامتين، واستمر كل داخل جديد يأخذ رقما ويدسه في جيبه احتياطا، بينما يحاول أن يحشر نفسه متخطيا دور غيره ما أمكنه ذلك.

8/10/2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق