أبحث عن موضوع

الأحد، 5 يوليو 2020

القصة القصيرة وقصيدة التفعيلة إلى انقراض................... بقلم : فيصل سليم التلاوي _ فلسطين



مثلما تنشأ في الطبيعة أجناس ويتطور بعضها، وتتغير هيآتها وأعضاؤها طولاوقصرا أحيانا،و نموا مفرطا أوضآلة أحيانا أخرى، تبعا للحاجة الملحة وضرورة التكيف، بينما تنقرض أجناس أخرى على مدى الزمن. يحدث كل ذلك تبعا لتغير الظروف المناخية والبيئية وعوامل أخرى متعددة، فإن نفس نظرية النشوء والارتقاء والتطور، التي تنطبق على الكائنات الحية، يمكن أن تنطبق على أنواع العلوم والآداب والفنون، التي يزدهر بعضها ويقفز قفزات واسعة في زمن من الأزمان، بينما يضمحل غيره ويتلاشى أمام تأثير عوامل التدافع والتنافس، بتبدل أذواق ومفاهيم واحتياجات متابعي هذه العلوم والآداب والفنون في كل عصر.




بعد هذه المقدمة نرى لزاما علينا أن نسجل رصدنا، لما نراه رأي العين من ملامح انقراض فنيين أدبيين، يتناقص أعداد مبدعيهما وعدد الإصدارات في كليهما، ويَقِلُ إقبال القراء عليهما، وانصرافهم عنهما إلى ألوان أدبية أخرى، وأقصد بهذين الفنيين (القصة القصيرة) و(قصيدة التفعيلة).




أما القصة القصيرة: هذا الفن الأدبي الحديث نسبيا الذي لا يتجاوز عمره القرنين من الزمان عالميا، وأقل من قرن واحد عربيا، فهي في أبسط تعريفها: تلك القصة التي يمكن قراءتها في جلسة واحدة، ولا تتجاوز بضع صفحات، وتجتمع فيها وحدات الزمان والمكان والحدث، وتتناول في العادة حادثة واحدة أو شخصية واحدة، أو موقفا معينا.




ويعد الكاتب الروسي غوغول أب القصة القصيرة، لكنها تطورت بعده، وترسخت على يد ثلاثة كتاب عظام هم: الكاتب الأمريكي إدغار ألن بو، والفرنسي جي دي موباسان، والروسي أنطوان تشيكوف، وذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.




هؤلاء هم الآباء الثلاثة لفن القصة القصيرة، وإن اختلف أسلوب كل منهم، فبينما عمد إدغار ألن بو للاستفادة من الرموز والخيالات، وجاءت قصصه بعضها تحليلي والآخر خيالي، فإن جي دي موباسان هو أول من اختار أن تكون القصة القصيرة معبرة عن لحظة محددة، وغايتها اكتشاف الحقائق من الأمور الصغيرة، أما أنطوان تشيكوف فقد كانت قصصه ناقدة للحياة الاجتماعية والسياسية في روسيا في أواخر القرن التاسع عشر، وجاءت قصصه قريبة من الأجواء الأسرية وتتسم بالدفء والحنو.




وبعد هؤلاء الرواد ذاع صيت القصة القصيرة، وتعدد كتابها في كافة أنحاء العالم. أما في عالمنا العربي فقد ظهرت بواكير القصة القصيرة في أوائل القرن العشرين، على يد محمود تيمور، حيث كانت قصته (في القطار) البداية المكتملة لقصة قصيرة، وبعد ذلك ازدهر هذا الفن وكثر كتابه ومريدوه، وبلغ أوجَهُ في منتصف القرن العشرين، وبرز من أعلامه يوسف إدريس ويحيى حقي وزكريا تامر وفؤاد التكرلي وغسان كنفاني وعشرات غيرهم، وامتلأت المكتبات بالمجموعات القصصية، كما أوسعت الصحف اليومية والأسبوعية والمجلات الأدبية صدر صفحاتها لكتاب القصة القصيرة، ووصل هذا الفن إلى أوج قمته وتألقه في عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي.




لكن الراصد للساحة الأدبية لا يغيب عن ناظريه، أن نجم هذا الفن قد بدأ يأفل، فلم يعد في أحسن حالاته كسابق عهده، بل إن أضواء الشهرة التي واكبته في النصف الثاني من القرن العشرين، قد بدأت تخبو لصالح فن قصصي آخر هو (الرواية) التي أخذت تنتشر سريعا، ويقبل على كتابتها أعداد لا حصر لها من الكتاب، فبعد أن كانت مقتصرة على أسماء يمكن تعدادها، كنجيب محفوظ وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وعبد الرحمن منيف وحنا مينا وجبرا ابراهيم جبرا والطيب الصالح وغيرهم. انتشرت اليوم انتشارا واسعا يعجز المتتبع عن حصر كتابها، وصارت قوائم الروايات التي تتقدم للمنافسة لنيل جائزة البوكر للرواية العربية، أولجائزة كتارا للرواية العربية تعد بالمئات، حتى تبدل القول القديم (الشعر ديوان العرب) إلى قول جديد (الرواية ديوان العرب)، ولا ضير في ذلك فهو تنافس إبداعي جميل.




لكن المؤسف أن موسم الهجرة إلى الرواية، قد جاء على حساب القصة القصيرة، فكأنما هجر كتاب القصة القصيرة فنَّهم ليلتحقوا بالفن الجديد، حتى من أمضى منهم عمرا بطوله متفرغا لكتابة القصة القصيرة والقصيرة جدا مثل محمود شقير، الذي نجده قد تحول أخيرا إلى كتابة الرواية، فأصدر حديثا روايتيه (فرس العائلة) و(مديح لنساء العائلة) بعد أن كان إبداعه مقتصرا على القصة القصيرة قرابة نصف قرن، ويندر أن تجد بين كتاب القصة القصيرة من يتمسك بموقعه فلا يبرحه، ولا يغادره إلى ميدان الرواية، وأبرز هؤلاء الصامدين في مواقعهم القاص زكريا تامر، الذي عبر عن موقفه بقوله: (لم أكتب إلا قصة قصيرة ولا أنوي كتابة غير قصة قصيرة، وعندما يسألني أحدهم: لماذا لا تكتب رواية؟ أدهش وأراه كمن يسأل صانع الخبز: لماذا لا تزرع وردا؟ ومن المؤكد أن استمراري في كتابة القصة القصيرة لا يعني موقفا معاديا من الأجناس الأدبية الأخرى، بل لأن القصة القصيرة لا تزال بالنسبة لي شكلا فنيا قادرا على التعبير عما أريد).




لكن بعض الكتاب يكتب القصة القصيرة مدة، كأنما ليتدرب على فن الكتابة، فإذا وثق من أدواته هجر القصة القصيرة إلى الرواية، وكأن القصة القصيرة سُلّم للصعود إلى الرواية، أو ميدان تدريب ليس إلا، مع أن مجال الفنيين مختلف تماما، فبينما تصلح القصة القصيرة لغالبية الناس، حيث قراءتها لا تستغرق أكثر من جلسة واحدة، أو جزء من الساعة، فقد تقرأها في لحظات انتظار، أو في حال ركوب وسيلة المواصلات، أما الرواية فتحتاج أن تتفرغ لها عدة أيام، ولا يقوى على التفرغ لها سوى المثقفين المتفرغين للشأن الأدبي، وبينما تقتصر القصة القصيرة على حدث معين أو شخص بعينه أو تسليط ضوء على ظاهرة بعينها، فإن الرواية عالم قائم بذاته، تتعدد فيه الأحداث والأشخاص وتتشابك الوقائع، ويحتاج تتبعها لتركيزومتابعة وإعمال ذهن، والمنطقي والحالة هذه أن يكون قراء القصة القصيرة أكثر عددا وكتابها كذلك. لكن الدراسات والإحصاءات الحديثة تشير إلى عكس ذلك.




أما الفن الأدبي الآخر الذي يبدو انقراضه واضحا للعيان، فهو الشعر الحر أو المرسل، أو ما اصطلح على تسميته ب (قصيدة التفعيلة)، تلك الموجة التجديدية المتحررة، المتأثرة بما يماثلها من تجديد في الشعر الإنجليزي والفرنسي، والتي برزت في منتصف القرن العشرين أو قبل ذلك بقليل، وإن سبقتها إرهاصات متعددة، لكنها لم تكن بمثل اندفاعتها وقوتها، والتي تمحورت حول ثلاثة رواد من الشعراء العراقيين: هم بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي، ثم تبعهم بعد ذلك بلند الحيدري وصلاح عبد الصبور ومحمد الفيتوري ونزار قباني وغيرهم كثير، ثم جاءت موجة شعراء المقاومة: محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد ورفاقهم.




و لقيت هذه الاندفاعة التجديدية المتمردة على قيود القافية الواحدة، والنسق المتماثل في عدد التفعيلات في شطر كل بيت شعري رواجا كبيرا، لكنها ظلت ملتزمة بالوزن الشعري وبالتفعيلة أساسا، وإن تنوعت أعداداها في كل بيت، لا يوقفها سوى توقف الاندفاعة الشعرية المتدفقة لدى الشاعر، فقد يتكون البيت من تفعيلة واحدة أواثنتان أو ثلاث أو أربع تفعيلات مع تنوع القوافي، لكن رونق الشعر ونغمته وموسيقاه ظلت باقية، وإن صار عصيِّا على الحفظ مثلما كان الشعر العمودي القديم، بل صار شعرا يُقرأ ويُتَمعن في صوره وأخيلته وابتكاراته، وجِدَته في اجتراح دلالات جديدة للألفاظ تخرج عن سابق عهدها، والغوص في رموزه التراثية وإيماءاته الأسطورية.




لقد لقي هذا اللون الشعري الجديد قبولا واستحسانا، وتتابع الشعراء ينسجون على منواله قرابة نصف قرن، حتى غلب على الشعر العمودي، وحاز على قصب السبق، وتدافع مئات الشعراء للخوض في هذا الميدان، وطبعت مئات الدواوين الشعرية من شعر التفعيلة، وبدا كأن المستقبل كله له، حتى غشيته موجة عاتية مما يسمى بقصيدة النثر، التي أبدع الشاعر عز الدين المناصرة عندما سماها (القصيدة الخنثى).




عندما تدفق هذا السيل العَرِم من النثر، الذي يكتب في سطور مقطعة على هيئة قصيدة التفعيلة وما هو منها، وهو بالنسبة للقارئ العادي الذي لا يمتلك أذنا موسيقية، تميز الشعر عن النثر كمثل السراب يحسبه الظمآن ماءً، ينخدع بهيئته التي تماثل قصيدة التفعيلة في طريقة عرضها، فلا يمكنه التمييز بينهما، ويحسب أنهما لون واحد. ومن يتتبع الصحف والمجلات الأدبية الورقية منها والإلكترونية، فربما وجد من بين كل عشر قصائد تنشر على صفحاتها، واحدة من شعر التفعيلة يقابلها تسع من النصوص النثرية، التي يُصِّرُ أصحابها على تسميتها قصيدة النثر، ولست أدري أي ضَير يلحق بهذه النصوص البديعة لفظا ومعنى وصورا مبتكرة، لو بقيت ضمن حقلها الطبيعي، الذي هو النثر البديع، فسميت خاطرة أو نثيرة أو جنسا ثالثا أو نصا إبداعيا، أو أي اسم آخر يتفق عليه إلا الشعر. وصرفت كل جهدها الإبداعي نحو تفجير طاقة النثر، وتركت تفجير طاقة الشعر لقصيدة التفعيلة.




لقد انفض شعراء قصيدة التفعيلة عن قصيدتهم الرائدة، لما أيقنوا عجزهم عن مجابهة هذا السيل الجارف من النثر، الذي ينافسهم ويُصر على أن يسمي نفسه قصيدة النثر، ويعرض بضاعته أمام القراء على نفس هيئة قصيدة التفعيلة، مما يستحيل معه التفريق بين اللونين على القارئ العادي. وأمام عجزهم عن تمييز أنفسهم، واستحالة إيجاد طريقة لفرز اللونين المتشابهين شكلا، والأخذ بيد القراء للتفريق بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وعجز شعراء التفعيلة عن التصدي لمن سماهم محمود درويش يوما مليشيات قصيدة النثر، الذين يتصدرون المشهد الأدبي برمته. إزاء ذلك فقد توقف معظم شعراء التفعيلة عن إنتاج الجديد، أو قلَّ جديدهم عما سبق، ولم يعد يلج هذا الباب سوى قلة من الشعراء الجدد، ما دام باب قصيدة النثر على سهولة صنعها مفتوحا للجميع على مصاريعه. بل إن كثيرا من مبدعي الشعر العمودي وشعر التفعيلة، قد ركبوا موجة قصيدة النثر، إما لأنهم لم يستطيعوا الوقوف في وجه هذا التيار الجارف، أو رغبة في إثبات قدرتهم وتفوقهم في شتى المجالات، والنماذج على ذلك كثيرة، فهذا الشاعر عز الدين المناصرة الذي سماها في البداية ساخرا (القصيدة الخنثى) قد عاد ليكتب بها، ومثله محمود درويش الذي وصف أصحابها بالمليشيات التي لا تقاوم، قد كتب قصيدة نثر، وشاعر آخر مبدع متألق في ميداني الشعر العمودي وشعر التفعيلة هو يحيى السماوي، لم يدخر جهدا في خوض غمار قصيدة النثر.




من كل ما سبق يتضح لنا أن قصيدة التفعيلة في طريقها إلى الانقراض، بفعل جناية قصيدة النثر عليها، وفي ذلك جناية على الشعر العربي الحديث كله، فقد انقطعت السبل تقريبا أمام العودة للشعر العمودي المُقفّى، ولم يعد يطرق بابه إلا القليل من الشعراء، وفي موضوعات الحماسة والوطنية، التي تستلزم نبرة خطابية، أو في موضوع الرثاء فقط. وكان المؤمل أن تكون موجة شعر التفعيلة هي التجديد الحقيقي للشعر العربي في العصر الحديث، وقد قطعت شوطا بعيدا في هذا المضمار، لولا أن داهمتها هذه الموجة العاتية من قصائد النثر فطمرتها تحت رمالها، ومهدت السبيل لانفضاض الناس عنها وانقراضها تدريجيا.




أما القصة القصيرة فإن سبب نفور الكتاب والقراء عنها، وتلاشي دورها بشكل متسارع يعد أمرا مبهما وغير مفهوم، فالرواية فن آخر مستقل لا يتماهى معها لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون، فلكل منهما مجاله الرحب وميدانه الفسيح، والمفترض أن يكون لكل منهما قراؤه المختلفون، والمنطق يقضي أن يكون قراء القصة القصيرة أكثر عددا. وتبعا لذلك فإن ازدهار الرواية ورواجها لا يتحمل وزر انقراض فن القصة القصيرة. فإذا كان خصم قصيدة التفعيلة والجاني عليها محدد وجَليّ وهو قصيدة النثر، فإن خصم القصة القصيرة غير معروف، وأمر تراجعها وانحسارها غير مفهوم ولا مبرر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق