أبحث عن موضوع

الأربعاء، 1 فبراير 2017

النشيد الاخير ............... بقلم : المفرجي الحسيني // العراق


في قرية حدودية كان مسكننا الريفي البسيط، في يوم مطير هرعت الى المدرسة على عجل، في الطريق كنت اقضم شطيرة جبن اعدتها لي امي، تأخرت جداً، اسابق الريح بخطواتي الصغيرة لأصل الى المدرسة واشارك التلاميذ في قراءة النشيد، آخر نشيد، النشيد الصباحي الذي كنا نردده كل صباح قبل دخولنا الصفوف مع معلمينا، معلمي أحبه وهو يحبنا حباً جماً.
حاولت أن أطيل البقاء خارج المدرسة لكن معلمي لا يبدأ النشيد ونردده معاً الا بحضور جميع التلاميذ، كما أن دوريات جنود الاحتلال منتشرة في المزارع والقرى ولا يسمح لنا بالتجوال.
دخلت ساحة المدرسة لاهثاً معلمي والتلاميذ يقفون بشكل منظم ومنسق وأمامهم سارية العلم. توقفت لحظة قبل أن أدخل الساحة لأسترد أنفاسي، كان بعض التلاميذ ينظرون الي ويتهامسون، قال المعلم سكوت ايها الاولاد سكوت. كنت أعول لتلك الاصوات والالتفاتات لأدخل الساحة مع زملائي، كان الصمت يخيم على ساحة المدرسة بعد أن طلب المعلم السكوت من التلاميذ. ألقيت نظرة الى المعلم والى صفوف التلاميذ، كان المعلم يذرع الساحة أمام سارية العلم مطرقاً رأسه بتأمل عميق وقد خجلت لتأخري وأحتقن وجهي، لقد لاحظت أن معلمي قد ارتدى البدلة الخاصة بهذه المناسبة والتي كنا نرتديها نهاية الاسبوع، أجلت النظر لأتفحص وجوه التلاميذ لمحت عليها مسحة من الوقار غير مألوفة ثم زادت دهشتي عندما أبصرت في آخر المجاميع أولياء أمور التلاميذ وموظفي المدرسة كل ذلك في جو من الوقار والحزن، قال المعلم: صغاري الاعزاء هذا آخر يوم ننشد فيه نشيد الوطن. لقد جاءنا أمر بمنع إنشاد هذا النشيد، واليوم هو آخر يوم ننشد النشيد، لا أقول لكم كيف تنشدون ولكن قلوبكم هي التي تنشد النشيد. هزتني هذه العبارات من الاعماق، إنه النشيد الأخير. وأنا الذي لم أتمكن بعد من حفظه، متى سأحفظه، يا حسرة على ما أضعت من وقت في اللهو واللعب ولم أتمكن من حفظ كلمات النشيد. كنت غارقاً في انفعالاتي عندما ناداني معلمي بإسمي، لقد جاء دوري في إنشاد النشيد، كان بودي أن أنشد النشيد بصوت عالٍ غير أني تلعثمت منذ الكلمة الاولى. لقد كان جسمي يتأرجح مثقل الصدر خافض العينين قال لي معلمي: لن اعاتبك اليوم يا ولدي لقد تكفل ضميرك بذلك. لقد كان صوت معلمنا جهورا حزينا يبين لنا جمال النشيد وروعة كلماته ومعناها. لقد اكد لنا معلمنا أن الشعب الذي يتعرض للاحتلال والاستعباد يظل قابضاً على مفتاح السجن ما دام حافظاً نشيد وطنه.
كل كلمة كان يقولها معلمنا أفهمها، كل ما ينطق به يُنحت في ذاكرتي. لم أنصت في حياتي بمثل هذا الشغف. لم يبذل معلمنا يوماً مثل ما بذله من جهد في توضيح معاني كلمات النشيد, كنا جميعاً في صمت وحملقة وكأن ساعة الدينونة قربت. رددنا النشيد وقد اختلطت أصوات الصغار الحادة بأصوات الكبار الحزينة، فجأة نظر الينا المعلم شاحباً قائلاً: يا أولاد يا صغاري لكن كلماته اختنقت في صدره فلم يكمل عبارته واغرورقت عيناه بالدموع وصاح "يحيا الوطن" وأسند رأسه بين كفيه وظل يبكي منتحباً وهو يشير الينا بالذهاب. لقد انتهى النشيد الاخير وسقط معلمنا غائباً عن الوعي.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق