أبحث عن موضوع

الجمعة، 24 يناير 2020

الوفاء / ق.ق ........................ بقلم : الدريوش العلمي _ المغرب



امرأة تدخل خريفها الخمسين تحاول أن تنسى، فتكذب كعادتها على نفسها وعلى الذكريات التي صارت تسكن ليلها ونهارها. كانت تضع آخر اللمسات على وجهها المدور والخالي من البهجة تماما.. وهي تستعد للخروج في جولة صارت طقسا يوميا كلما أقبل المساء..

تحسست برفق جسمها، فوجدته كجذع نخلة قديم زادته ليالي البرد والأمطار انتفاخا.. فجلست فوق الأريكة وأغمضت عينيها قليلا..ثم قامت وشرعت تتأمل طويلا صورة زفافها الوحيدة التي بقيت تسكن معها فوق الجدار المقابل لغرفة النوم اليتيمة. رأتهُ لا زالَ يبتسمُ وهو يدُسُّ في فمها حَبَّةَ ثمرٍ مَحْشُوَّة بمعجون اللَّوز..سافرت داخلها وفي عينيها دمعٌ مكتومٌ كالجمر الخامد المنتظر لرياح الشوق.. ثلاث سنوات كاملة انقضت على اختفائه المفاجئ.. تذكرت تلك الليلة المشؤومة التي عادت فيها متأخرة إلى البيت لتجد فوق المنضدة ورقة الطلاق، وبجانبها تنازل لها عن الشقة والسيارة والرصيد الكبير المشترك في البنك.. وبخط أحمر غليظ حروف صادمة تصرخ فوق ورقة ناصعة البياض: " قررت الانسحاب للأبد، لا لشيء إلا لأني أريد الانسحاب.. لا تسألي عنِّي بعد اليوم، ولا تُكَلّفي نفسكِ عناء البحث"..

ظلت تترقب عودته كل يوم.. وتوالت الأيام والشهور، ولم تقتنع يوما بأسباب هذا القرار الغادر.. ثم كَرَّتِ الشهور وأصبحت سنوات.. و هاهي تلعَنُ هذا الحظَّ العاثرَ والتواريخَ المشؤومةَ. في مثل هذا اليوم من نفس الشهر كان زواجهما.. وهو نفس التاريخ الذي فرَّقَ بينهما !!

خَطَت خُطوات في البهو، ثم نادت كلبها بصوت مكسور: "ماكس". فأقبل عليها يحرك ذيله. إنه كلبٌ صغيرٌ يكسوه شعر أبيض كصوف حَمَلٍ وديع . هو الآخر زهَدَ فيه ولم يَحْمِلْه معه على الرغم من مكانته في قلبه ، وكان قد أهداه إليه أحد أصدقائه المغترب في إنجلترا بمناسبة عيد ميلاده. أمسكت الحبل الأخضر المضفور من القماش ووثقته في الطوق الجلدي بعنقه. فتحت الباب واستدارت من بعيد تنظر إلى الصورة فوق الجدار.. فعادت واقتلعت الصورة وألقت بها أرضا فتطاير الزجاج، وشرع الكلب يقفز وينبح ويترنح ..جَرَّتْهُ بعنف وغلّقتِ الباب وانصرفت..

من شارع إلى شارع .. ومن متجر إلى آخر ظل الكلب هادئا مطيعا يساير خطاها.. وقفت أمام الجزار الذي أصبح يحفظ ما ترغب فيه.. فناولها اللحم المفروم وقطعا صغيرة من لحم الغنم خالية من الشحوم. سدَّدت الثّمن، وحملت الكلب نحو صدرها وألقت في فمه قطعة لحم شرع في نهشها بأسنانه الحادة. وعند خروجها من المحل، فاجأها فتى حافي القدمين يمد يده إليها ويتوسل مساعدة.. تجنبته قليلا ، لكنه أسرع نحوها وعاود توسله.. فدفعته ليسقط أرضا. شرع الكلب في النباح وتحرك بين يديها بشكل يشبه الهيجان.. أنزلته فبدأ ينبح من جديد ويجرها نحو الفتى الذي ظل ملقى على الأرض. أرادت أن تحمله وتهدئه، فعضَّ يدَهاواهتزَّتْ صارخةً من الألم ، وأطلقت الحبل من كفها لينطلق الكلب يعدو ويعدو.. وشرعت تصرخ: ماكس .. ماكس.. لكن ماكس لم يعد يظهر له أثر..

قطعت الشارع الطويل وهي تردد: ماكس.. ماكس..ولما أعيتها الأزقة بحثا.. عادت نحو الجزار لتجد الفتى قد اختفى مثلما اختفى ماكس..

دخلت المنزل منكسرة فجمعت شظايا الزجاج بعدما أخرجت من بينها الصورة التي أصيبت برتوش، وضمتها إلى صدرها وارتمت تبكي في الفراش..

استيقظت باكرا بعد ليلة طويلة من الكوابيس..فلم تجد لديها شهية لتناول أي شيء.. ومن غير أن تهتم بزينتها وجدت نفسها في الشارع الذي بدا شبه مقفر من الناس.. وهي تمسح الأمكنة بعينيها بحثا عن كلبها .اقتربت من محل الجزار فتسمرت في مكانها..هل صحيح ما تراه عيناها ؟! الفتى على شكل هلال يغط في النوم مفترشا الكرطون.. وبجواره يتقوس ماكس فيما يشبه دائرة بيضاء.. اقتربت بخطى حذرة وصامتة، ثم انفلتت من لسانها كلمة ماكس وكأنها شوكة وخزت مسمع الكلب الذي قفز بقوة وارتطم بالجدار، ثم راح يعدو ويعدو مخترقا الأزقة.. ليختفي من حياتها للأبد.





القنيطرة 19 يناير 2020

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏كلب‏‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق