أبحث عن موضوع

الجمعة، 24 يناير 2020

كذبة ثقيلة /ق.ق ...................... بقلم : عادل نايف البعيني _ سورية







رمى سمير الجريدة جانبا وهو يقول:"ما لي وهذا الكلام؟ ليس عندي بستان تفاحٍ، ولا أنتظر موسِماً وقبل أن تسقط الجريدة كورقة خريف على الطاولة، قفز بوجهه عنوان شدّ انتباهه (رفع الدّعم). عاد وتلقّفها بلهفةٍ، وراح يلتهم الخبر، كانت عيناه تجوبان في عمق الكلام كعيني صياد معلقتين برجاء صيد يسد الرمق، زحف القلق متسللا في عروقه، حتى انتصب له شعر رأسه واقشعرّ منه بدنه، وهو يقرأ: (رفع الدعم عن المازوت، والبنزين ، والسكر والأرز .. و..و) نفخ، وشتم، واستعاذ بالله من هذا الخبر، أعاد النظر وقرأ من جديد:"الحكومة تدرس الأمر وتطرحه لاستمزاجِ رأي الجماهير" عاد إليه بعضَ هدوئه، هَمْهَمَ: "جميلٌ ما أقرأ تطوّرٌ لافت، الحكومة تستمزج رأينا على غير عادتها! وهل تراها ستأخذ برأي الناس لو قالوا: لا لرفع الدعم،"




حاول أن يطمئن نفسه، لكنّه لم يستطع منع الهواجس من اجتياحه، تساءل ما الذي سيفعله لو أنّ الحكومةَ ضربت صفحا عن اعتراض الناس، وسارت قدما في قرارها، وصدّقت على رفع الدعم؟ ماذا سيحلّ به وهو الذي يعتمد على هذا الدعم الآن. فتكاليف العرسُ قد تركته منتوفَ الريشِ، وعروسه التي أرادت أن تُجاري بنات الذوات من أغنياء الغفلة، لا زالت تتخلّق عليه، مطالبة بأشياءَ لا حِمْلَ له عليها، دون أن يقع في عجزٍ.




لم يَدْرِ كيف تراكمت عليه تلك الديون، استعان بأبيه وأخوته، واستدان من البنك قرضَ زواج، وقسّط ما أمكنه من أثاث البيت والمطبخ؟ أنقذه أنّ لديه شقّة حصل عليها بعد عشر سنوات من تسجيله في إحدى الجمعيات السكنية




ويذكرُ حين تسلّم مفتاحها، كيف كان مصعوقا لدرجة الإغماء من شدة الفرح، وكانت دهشته كبيرة حينما خصّص بشقة، فهو يعرف زملاء مسجلين على شقق في جمعيات أخرى، منذ عشرين عاما، ما زالوا في صف الانتظار. حتى أصبحت الشقة السكنية في تلك الجمعيات كسمكة همنغواي، قد تصطادها بعد عمرٍ مديد، ولكنّك لن ترى سوى هيكلها. مازحه صديقه محمود بعد استلامه مفتاح الشقة قائلا: "الآن ستجد عروسا تأخذك يا سمير، الفتيات يبحثن عن الشقة والبيت قبل العريس، وها أنت تحمل مفتاح العرس لا الشقة؟".




عاد به التفكير لهذا الوحش القادم إليه من ثنايا رفع الدعم، لا شكّ أنّه سيلتهم بضع المئات التي قد تتبقى من مرتبه كل شهر، وإذا لَم يصدق جارُهم، وتتسلّم زوجتُه عملها أول العام، فأنّى له أن يسدّد السندات التي وقّع عليها والتي ستبدأ بعد أعياد الميلاد.




منذ أن بدأت العطلة الصيفية، استغنى سمير عن التقويم الشهري، وصار يعلم أنّه كلما تناقصت نقود مرتبه، كلّما اقترب من نهاية الشهر، فلا حاجة لأن يهرع كما سبق إلى الروزنامة ليقتلع منها ورقة، يحدّق كلاهما بوجه الآخر مليّا، ثمّ ينصرف مطلقا قذيفة لغوٍ هوائية، لا تغيب إلا مع أفٍّ وشتيمة لهذا العمر القائم على وهمِ الوعود.




في أول العام صدقَ جاره، وتسلّمَتْ زوجُه عملاً، وصدق هو فبدأ بتسديد السندات، والحكومة العاجزة عن رفع الرواتب، عَدَلت عن قرار (رفع الدّعم) مؤقّتًا، فعادت البسمة ترقص على شفتي سمير، وصار بمقدوره الآن، أن يوفّر شيئا من المال، يحلّق قليلا مع أحلامه، يبني عرزاله الصيفي من أغصان خياله، ويجلس مع ذاته مفكّرا بالقادم في مدحلة المستقبل.




تعهّدت عائدة بتسديد أحد الأقساط عنه، ولكنّه مع كل هذا لم يكن مطمئنّا، فما زالت كلمات أمّه ترنّ في أذنيه:"احذرْ يا سمير، أنت تعمل في مدرسة خاصة، لا تعرف متى يقول لك صاحبها اغرب عن وجهي، فلا ترهق نفسك بالديون".




مع مطلع شهر نيسان، استدعت أمينة السر سميرًا، سلّمته مغلّفا ممهوراً بخاتم المدرسة، وتوقيع مديرها وهي تقول بصوتٍ مضطربٍ:




= "تفضل أستاذ سمير، هذا المغلف لك، سلّمني إياه المدير قبل أن يَمضي، أرجو أن توقع على الاستلام".




"ترى ما الذي يحويه هذا المغلف؟ لا بدّ أنّها المكافأة التي وعدني بها المدير" قال في نفسه، راح يفضّ المغلفَ بيد مرتعشة، أخرج رزمة من الأوراق المالية، وسقطت بين قدميه ورقة، التقطها فتحها ببطء، وما إن صافحت عيناه أولى الكلمات، حتى لفّه دوار كالإعصار، انحنى على نفسه كممعود يردّ مغصًا، نظر حوله فلم ير سوى أوجهٍ باهتةٍ شاحبة تكاد تجهش بالبكاء، حاول النطق لكنّ لسانه كمن ربط بجندل، تمتم بصعوبةٍ: "لِماذا؟.. لِماذا؟ كنت أنتظر مكافأة لا قرار فصلٍِ؟ " قرأ ثانية:" قرار فصل" تذكر كلام أمه، قال في نفسه:"غير معقول، المدير يحبني، يحترمني، يشيد بي دائما." شعر بانقباض شديد وهو يرى توقيع المدير، راح شريط السندات الأقساط الشهرية ..مصروف البيت.. يمرُّ كعقرب ثوانٍ، تذكّر (رفع الدعم عن المازوت والخبز.. والسكر.. والأرز).. حاول النهوض فلم يقو فسقط على المقعد منهارًا.




فجأة انفتح باب الإدارة المفضي إلى غرفة أمينةِ السر، دخل المدير وبعض المعلمين وهم يقهقهون، ارتعد وزاده المنظر غيظا وقهرًا. ارتخت مفاصله، غطّت عينيه غشاوة ضبابية، دارت به الغرفة، كلّ شيء أمامه صار مقلوبا، وقبل أن تصل يدُ المدير إلى كتفه هوى عن المقعد وسقط على وجهه مرتطمًا بالأرض كما لو أنّه خزانةُ ملابس. لم ينجح المدير ولا زملاؤه أن يتلقّوه فأحدث ارتطامه بالأرض فرقعة وجلبة، أعقبه هرج ومرج، فانطلقت به إحدى سيارات زملائه للمشفى بينما أصابع المدير تعلِكُ ورقة الأوّل من نيسان.




خرج الطبيب من غرفة العناية المشددة، كلّ العيون انشدّت نحوه، تمتم متلعثما:" كانت كذبةً ..لكنها كذبةٌ ثقيلةٌ جدّا".




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق