أبحث عن موضوع

السبت، 30 يوليو 2016

لدغة عقرب ( قصة قصيرة ).............. بقلم : سوسان جرجس / لبنان




تسربل النهار لباس الغروب، لوّح أديم السماء للبحر مفارقًا، أضواء خافتة تغمز لي بعيون اللامبالاة والتيه منبعثة من خيم الغجر المبعثرة على الشاطئ، حركة توحي بأنّ الحياة هنا لا تنام: قهقهات معتّقة بهدير الموج وغموضه، ألفاظ أرقب مرحها الطفولي دون إدراك للمعنى، مجال مفتوح يعانق السماء والبحر والأرض عشقاً، حركة أجساد حرة ترغمني على النظر بذهول في لباسي الذي طالما حجب عني نور الشمس ونارها المقدّسة.
أنحني ألتقط حفنة رملٍ داستها آلاف الأقدام، بها أمسح وجنتيّ، عينيّ وشفتيّ؛ بيد مرتعشة أرمي عباءتي خلفي، أنزع دبوسًا حاقدًا يثبّت حجابي حول عنقي، أطلق شعري لنسائم نيسان الخجولة؛ بقدمين حافيتين أخطو نحو موج يضطرب إثارةً من عريّ أنثوي لم يعلن عن نفسه بعد، أحدّق بعيدًا وأتوه أبعد من شمس مذبوحة عند خط الغسق.
تراءت لي "خالتي"، امرأة جُبلت بنفحة من روح إبليس فورثت عينيه الحمراوين، بشرته المتموجة بين الأزرق والأسود، ابتسامته الكائدة التي تزهر بأحزان الناس وهمومهم. أذكر جيدًا يوم اقترحت على والدي تحجيبي بحجة حماية شرف عائلتنا المهدّد:
- حجّبها الآن وإلا ستفلت من يدك كما أمها.
- لكنها ما زالت في السابعة من عمرها.
- حتى وإن كانت في السادسة، لا أريد لبناتي أن يبرن بسبب سمعة ابنتك وأمها العاهرة.
لم يكن الحجاب الأمر الوحيد الذي استعجل رحيل طفولتي، فالمشكلة الكبرى كانت في منعي من الذهاب الى المدرسة واللعب مع الأطفال في الحارة خاصة الصبية منهم.
صباح أحد الأيام خرجت شقيقتاي للّعب بأرجوحة عُلّقت في غصن شجرة الجوز، فيما دفعتني "خالتي" نحو المطبخ لأغسل الأطباق والأواني؛ بلا إرادة مني تمركزت ذاكرتي في كابوس الليلة الماضية، عبثًا كنت أهرب من عقرب عملاق يحاول لدغي ولم يتركني إلا بعد أن هويت في بئر غائر، فجأة سقط صحن من يدي، تناثرت قطع الزجاج على الأرض، انحنيت ألملمها فإذا بكفّ "خالتي" كأفعى سامّة تقبض على عنقي تريد التهامي كأنني جرذ صغير. لا أذكر كيف أمكنني الإفلات من قبضتها والعدوِ بخطىً مضطربة فإذا بي أتعثر بإحدى كراسي القش المبعثرة في باحة الدار، وقبل أن ترفعني يدا جدتي لتحميني بين ذراعيها انهالت "خالتي" عليّ ضربًا بالمكنسة، وللمرة الألف يعلو الشجار حادًا بينهما:
- ألا تستحين من نفسك بأن تعاملي فتاة يتيمة بهذا الشكل؟
- هههههه يتيمة! أتعلمين في أحضان أيّ رجل ماتت أمها الفاجرة؟!
- أصمتي عليك اللعنة، الله وحده يعلم مكان المرأة ومصيرها.
حتى الآن ما زالت قهقهات "خالتي" تمزق روحي رعبًا وهي تتنقل بنظراتها الحاقدة بيني وبين جدتي التي تمسك بيدي الصغيرة وتسير مرددة: "غريب أمر هذه الحياة، إنها أشبه ببيوض عقرب تفقس وتكبر فتلدغ الجسد الذي احتواها وترمي به على صدر الموت".
أخذت نفسًا عميقًا، نظرت حولي بذهول، ها أنا أبتعد عن الشاطئ، أغيب في لجتَي البحر والظلام، أتبسّم برضا وسلام، رغبة عنيفة تغريني بأن أكون معشوقة سرمدية لليمّ حيث لا شيء سوى طهر متجدّد يغسل أجسادنا، أرواحنا وذاكرتنا المثقوبة بالألم، أستدير لألقي نظرة أخيرة على المنارة الغجرية، يجفل قلبي وأنا أرى نفسي وجها لوجه أمام امرأة يضيء القمر منها ملامح الشقاء والصبر، تمدّ لي يدها، أتمسك بها، يغمرنا الموج، أسمع لحناً وهدهدة حمام وامرأة تغني "ما احلى الحلو غافي...هالينا وهالينا عندك ذهب عطينا، لعمل حلق لبنتي واشكل شعرها بياسمينة".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق