أبحث عن موضوع

السبت، 26 أبريل 2014

انا والغريب .............. خديجة السعدي / العراق




فكّرتُ طويلاً في الكلمات التي تفوّه بها ذلك الرجل الغريب ليلة البارحة. استمعتُ إليه باهتمامٍ كبير وراقبتُ نظراته عن كثب. وبينما كنتُ أتأمّل صفحة السماء المطرّزة بفتنةٍ مُهيبة شعرتُ بحرارة خارجية تتوجّه إلى نقاط عديدة في جسدي، ثمَّ رأيتُ عدداً من العيون أكثرٌ اتساعاً من عيون البشر. كانت جميلةً ومؤثرة، تدعوني للبقاء معها أطولَ مدّة. بقيتُ أنظرُ إلى تلك العيون تارةً، وتارةً أخرى إلى النجوم. كانت تشدّني أقوال الغريب عن الأفواه المفتوحة للمندهشين وهم يستمعون إلى أقواله بانتباهٍ وحذر، وبدأتُ أرى صوراً ولوحاتٍ مرئيّة بأشرطةٍ ملوّنةٍ ساحرة.
كنتُ على الشرفة المطلّة على الشارع الخلفيّ للبيت حينما رُنَّ جرس الهاتف الموجود في الغرفة المجاورة. الهدوء يعمّ المكان. رفعتُ سمّاعة الهاتف.
- ألو!
- أهلاً آمال.
- كيف حالكِ يا سعاد؟
- بخير.
لم تكن لديّ الرغبة في الحديث.
- ألو!
- سأتّصل بكِ صباح الغد.
وضعتُ سمّاعة الهاتف ثم رجعتُ إلى الشرفة. الوحدة تكتنفني. آمال تحسُّ بما يخالجني فهي قد اعتادت أفعالي.
في الصباح الباكر كانت آمال بكلّ عنفوانها تزيدني تمسّكاً وحبّاً بأريج صداقتنا. ابتسمتُ وهي تشدُّ على يدي متلهّفةً لسماع أخبار ليلي. جلستْ قبالتي وعيناها تفيضُ حيويّةً وبهجة. لا أدري من أين أبدأ، الحديثُ في مثل هذه الأمور وسرد التفاصيل سيتحول إلى قصّة مثيرة.
- بدأتْ قصّتي كما تعلمين منذ فترةٍ ليست بقصيرة. كنتُ أرى أشرطةً بألوانٍ زاهية تمتدّ أمامي إلى ما لا نهاية، ودورانٌ محبّب يلازمني. مساءَ أمس، وبعد أن نام الجميع، جلستُ متأمّلةً ما يحيط بي. ما أن أغمضتُ عينيّ حتى بدأت الألوان تنتشر في المكان، وبدأت خيوط لامعة تنسجُ مناظرَ خلابة تسبغ على روحي راحةً وطمأنينة، وأخذ خدرٌ منعش يسري في كياني، ولازمني فرحٌ كبير. تراقصت الكلمات الواحدة تلو الأخرى، وأخذت ارتعاشات بدني تتواصل. وبدأت أنصت إلى الأصوات البعيدة بودٍّ حميم. إنّه الفرح الهادئ يدبُّ في أوصالي.
بعد حوالي ساعةٍ من الانسجام السحريّ شعرتُ برعشةٍ أخرى خفيفة أعقبها دفءٌ سرى في داخلي وأصبحت رؤيتي وطريقة انسجامي مع الكون أكثر توافقاً. يالهذه الغبطة الداخلية! وعلى امتداد رؤيتي أخذت النقطة الأكثر بعداً تتّسع لتصبح دوائر مضيئة تعانق إشعاعات روحي الهائمة. تسارعت حركة الأشكال الهندسية أمامي. رأيتُ في الأعالي قصوراً وشوارعَ فسيحة، وأشجاراً ضخمةً عالية، وبشراً مجبولين من فرح. ليس هناك ما يزعجُ ناظريَّ. الرسوم تتحرك بسرعة كشريطٍ ملوّن قابل للتدوير والانبساط والالتفاف حول نقطةٍ صغيرة واتّخاذِ أشكالٍ وتريّة راقصة.
- أرجوكِ أكملي، فأنا في توقٍ كبير لسماعكِ حتى النهاية.
- أخذت الأشكال تتخذ أشكال أوتارٍ جاهزة للعزف. إنها تُعزفُ بإتقانٍ فائق وعلى ترنيمةٍ ساحرة. شعرتُ بالارتياح، وازدادت رهافة أحاسيسي وألفةٌ جديدة لازمتني واعترتني سعادة فائضة، فأصبحتُ أرى الجمال في كلّ ما وقعت عليه عينيّ. شممتُ روائح منعشة من نوعٍ غريب. طال تجوالي. استقيتُ من خطواتي همساتٍ دافئة وبدأت أمواجٌ سحريّة تتدافع إلى علياء روحي مليئةً بالوجد. ابتلعتُ ريقي وشعرتُ بأنّ حنجرتي أصبحت أكثر دفءً. إنها صهباءُ تغنّي وصوتٌ يصدي من بعيد. يالغبطة روحي. جموعٌ تترمّد في محرقة الوطن وأنا مستأنسة بما أشعر به.
- ما ذنبكِ فيما يدور؟
- لا أدري يا آمال. أهو التفاؤل، أم طوفان محبّة؟ عذراً للدماء المستباحة. إنّها قصةٌ مثيرة تتداخل فيها الأحداث أمامي لتشكل قصةً داخل قصّة. وفي أحيانٍ كثيرة كنتُ أحتار في أمري: هل أقصّ قصّتي أو أذكرُ الأحداث كنصٍّ مثير؟ وتوالت القصص المتداخلة حتى أصبحتُ قاصّةً لنوعٍ من القصص احتار الآخرون في وصفها. وعلى الرغم من توالي الأحداث المرعبة في وطني، كنتُ أكتبُ وأسردُ حكاياتي وقصصي والدهشة تغمر من يحيط بي.
- أجل؛ إنّها مثيرة ومدهشة حقاً!
- كانت تحاورني أرواحٌ حيّة تطوفُ رغبةً لملاقاتي لتُصدي الأيام بعد ذلك صلاة يومي وتغتبطُ الأيّام والريح. كنتُ أرى وأنا بعدُ طفلة مثل هذه الرؤى، ولكن الآن؛ الصور تبدو أكثر جمالاً ورقةً وعذوبة. أنّى نظرتُ كانت تحرسني العيون. وهذا الضياء ودفؤه زوّدني بطاقةٍ أستقي منها جلّ همساتي، والأفواه المفتوحة، المندهشة، أخذتْ تُرسَمُ أمامي بأشكالٍ جديدة. تبددت الدهشة وصارت الأفواه تتكلم. إنني، على ما يبدو، أتعلّمُ أشياء كثيرة، ورهافة حسيّة وإدراكٌ كبير صارا يلازماني.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق