أبحث عن موضوع

الثلاثاء، 22 أبريل 2014

القبر ...................بقلم الاديبة والشاعرة خديجة السعدي/ العراق


لم تكن زياراتي لقبر ابني كلّ يوم اثنين وخميس مجرّد زيارات لميت، فالاشتياق إلى المكان كان له كذلك تأثير على لهفتي لتلك الزيارات. إذ سرعان ما انعقدتْ أواصر إلفة بيني وبين المكان، بكلّ ما يحويه من قبور وزرع وأحجار. كنتُ أنظّف المكان وأسقي القبر، وأسقي القبور الأخرى والأزهار والأشجار القريبة. كنت أحسّ بمتعة غريبة وبإلحاح داخليّ يدعوني للقيام بالسقاية والزيارة بشكل منتظم، مهما كانت الظروف ومهما كان الجوّ.
كنتُ أجلس بالقرب من قبر نوار، تحيطني الأزهار التي تتفتّح في السنة الواحدة مرات عدّة. وغير بعيد عن القبر، كانت تتسامق الأشجار بأنواعها. كان كلّ شيء يبدو لي، ولقاطني القبور وللمارّة والزائرين، جميلاً ومسالماً.
بالطبع، لستُ الوحيدة التي تأتي لزيارة المقبرة بانتظام؛ ثمة أيضاً شهناز ميقري. كنتُ ألتقيها أحياناً حين تأتي لزيارة قبر أبيها؛ تسقي وترعى المكان بحنان، كما أفعل. حين تغيب لسبب ما، تبدأ عيناي بمراقبة مدخل المقبرة وقبر والدها، والطريق المؤدية إلى دارها، إلى أن تظهر أو أغادر.
تعود معرفتي بشهناز إلى عام 1979، حين التقيتها مع مجموعة من الطلبة الأكراد في مينسك، عاصمة روسيا البيضاء. كانت هادئة ووديعة، تحبّ الهدوء وشرب القهوة والتدخين.
في عصر يوم خميس من أواسط شهر نيسان الماضي، ذهبتُ مبكّرة بعض الشيء إلى المقبرة. كان الجوّ جميلاً، لكن المكان كان خالياً سوى من بضعة أطفال يتوزّعون هنا وهناك، يسقون القبور ويلعبون ويتراشقون بالماء. لم تكن شهناز عند قبر والدها. كما قلت، كان الوقت مبكّراً. كنتُ، كالعادة، ذاهبة لأسقي قبر نوّار وأحادثه وأحدّثه عن كلّ ما يخطر ببالي، فالحديث معه يسعدني ويشعرني بالأمان.
من بعيد، لمحتُ ظلاً بجانب قبر ابني. سارعتُ الخطى لأرى من هناك، وكأني أنتظر مفاجأة أو حدثاً خارقاً. كانت شهناز تجلس القرفصاء عند رأس القبر والدموع تملأ عينيها. "ما بكِ يا شهناز؟" سألتها، لكنها لم تجب. جلست بجانبها أراقب دموعها واحمرار عينيها. أخرجتْ منديلاً من حقيبتها ومسحت دموعها، ثم تناولت سيجارة وأشعلتها بصعوبة بسبب الهواء. بعد أن أخذت نفَساً عميقاً من سيجارتها، رفعت رأسها ونظرت إليّ بحزن وقالت:
"لقد أتيت قبل أكثر من ساعة. جلستُ عند قبر والدي كالعادة، وبعد أن سقيته ونظّفت المكان، تراءى لي أبي وطلب مني زيارة قبر نوّار لأطلب منه أن يهتمّ بوالدي ويساعده عند الحاجة. أعرف أنك قد لا تصدقين، لكني أقسم أن هذا ما حدث. ولا، لم يكن تخيّلاً أو هذياناً. كانت صورته وكلماته واضحة وحقيقية كما أراك الآن."
فكّرتُ أن الموتى قد لا يعرفون بعضهم بالطريقة التي يعرف بها الأحياء بعضهم، وأنهم قد لا يعترفون بصلات الأحياء وعلاقاتهم، لكني لم أخبر شهناز بأفكاري هذه، بل قلت:
"اطمئنّي يا شهناز، أنا أكيدة أنّ نوّار سيلبّي طلب والدك. الأموات يزورون بعضهم البعض، تماماً كما نفعل نحن الأحياء."
"سأزور قبر نوّار كلّما زرتُ قبر والدي لأطمئنّ عليهما،" قالت وهي تمسح دموعها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق