أبحث عن موضوع

الجمعة، 9 يونيو 2023

دراسة تحليلية في أوسلو والصراع في رواية "معبد الغريب"...... بقلم : رائد الشافعي - فلسطين



في هذا العمل يجد القارئ كل سمات المتعلقة بالرواية، أحداث وصراع خارجي وداخلي، شخصيات رجال ونساء فاعلة ومؤثرة ، طرح جديد يتمرد على ما هو سائد، سياسيا واجتماعيا، إن كان من خلال الحوارات أو من خلال المواقف، وبما أن هناك حضور قوي وفاعل للمرأة التي انعكس أثرها على سرد الرواية بحيث نجد الفصول المتعلقة بها أطول من تلك التي تتحدث عن السجن، وإذا علمنا أن عدد صفحات الرواية 350 صفحة حجم كبير، نصل إلى حجم الجهد والوقت الذي بذله الكاتب في كتابة الرواية.
كتابة الرواية
ننوه إلى أن "رائد الشافعي" هو أسير عند الاحتلال، لهذا كان هاجس الخوف من ضياع/ فقدان هذا المولود حاضرا حتى في أحداث الرواية: "وتذكر (أبو عماد) ونصيحته الأخيرة له بأن يؤمن أوراقه لدى أحد ممن منعتهم ظروفهم الصحية من الالتحاق بالإضراب، وندم لأنه لم يأخذ بنصيحته. لم يترك أحدا إلا وسأله عن أوراقه التي أودعها في حقيبة صغيرة مع بعض الرسائل والصور، أن معظم متاعهم وأشيائهم صودرت أو مزقت أو ألقيت في القمامة، كان متأكدا أنه لن يستطيع إعادة كتابة تلك الرواية التي أضاعها" ص268، فكتابة الرواية لم تكن بالأمر السهل ولا الهين، من هنا نجد العديد من المقتطفات تتحدث عن أهمية الكتابة وما تحمله من معنى للكاتب الأسير: "نحن نكتب حتى نتخلص من أعبائنا... الحرية هي تحويل ذلك الصمت الرهيب إلى كلمات تحميه من الموت ...إذ يلزمه إثبات أنه حي عبر كتابته" ص29، بمثل هذا العبارات كان "غريب" يشير إلى وضعه كأسير في سجون المحتل، وأيضا يؤكد أهمية الكتابة ودورها في إثبات وجوده كإنسان أولا، وكأسير ثانيا، وكأديب ثالثا، فهو ينظر/ يتعامل مع الكتابة على أنها فعل غير عادي، بها يحقق ذاته، وبها يواجه المحتل ويبين تألقه كأديب، وبهذا يرد على تهمة (الإرهاب) التي يصفه بها المحتل.
ويقدمنا "غريب" أكثر من رؤيته للكتابة ودورها في بقاءه كإنسان يعمل من أجل قضية وطنية/ قومية/ إنسانية، وليس من أجل الكتابة المجردة بقوله لصديقه "دانيال": "فالكتابة تشكل مضادا للوهم واليأس وحارسا أمينا على ذكرياتنا وحافظا لها في زمن التكنولوجيا والسرعة" ص45، بهذه النظرةالمتقدمة يؤكد السارد أهمية الكتابة ودورها في الحفاظ على الأمل والتخلص من واقع الأسر وما فيه من قسوة وألم: "أكتب حتى أتحرر من عبودية الصمت والتردد، ذلك يمدني بقدرة خارقة على مغادرة الظلام، بإمكانك القول ولادة جديدة" ص49، نلاحظ أن "غريب" متعلق بالكتابة، بها يقاوم المحتل والأسر، وبها يبقى مستمرا في ممارسة الحياة، وبها يجد ذاته.
تطرح "هلا" فكرة تتجاوز الرواية كرواية مجردة إلى ما هو أبعد من الأدب: "بأننا لسنا داخل رواية.. قد نكون نحن الرواية" ص183، وهذا إشارة إلى واقعية أحداث الرواية، فهي رواية واقعية.
الحكم والأقوال البليغة
لاحظنا أن السارد يهتم بالكتابة، بمعنى انه قارئ، لهذا نجده يذكر من مجموعة من الكتب والروايات أثناء سرده للأحداث، وهذا الأمر انعكس على شخصية بالبطل "غريب" الذي كان له رفاق يماثلونه في المعرفة، فنطقوا بحكم تماثل أفكارهم وإيمانهم ونظرتهم للحياة، للواقع، من هنا جاءت هذه الأقوال لتخدم أحداث الرواية وتعرفنا أكثر على طبيعة الشخصيات وما تفكر به: "كلما ارتفعت قيمة الأنا وحب الذات سهلت الخيانة" ص42، "أن الموسيقى ألغت احتمال أن تكون الحياة غليظة" ص59، الفرار من المواجهة ليس من الحرية في شيء" ص75، الوفاء عبء لا يتحمله إلا العظماء" ص81، الشدائد هي التي تصنع الرجال وتطهر معادنهم" ص97، "أكبر جريمة نرتكبها بحق أنفسنا، هي حين نصمت عندما يجب أن نتكلم" ص140، "للوجع مفعولا سحريا لبقاء الضمير متيقظا" ص155، "كل شيء يغتفر إلا خيانة الوطن" ص161، "إن النسيان تخلي وجريمة نقترفها بحق أنفسنا" ص231، "الحياة بلا ذاكرة تؤثثها امرأة، تظل منقوصة وباردة ولا قيمة لها" ص232، "إياك أن تهزم وتسمح لهم بكسرك، انكسارك سيجعلك شريكا في مأساتك" ص321، كل الذرائع التي نسوقها أمام أنفسنا هي سلاح الضعفاء في تبرير هروبهم من الحقيقة، الحاجة والخوف هما وهم مختلق لتبرير الاستسلام والسقوط" ص334، "يافا بحاجة من يعيدها، لا من يزورها سائحا كقرطبة" ص344، طبعا هذا الأقوال تختزل فكرة الرواية وأحداثها وتعطينا فكرة عن شخصية بطلها "غريب" وكيف يفكر، فهي لم تأت كحشوة بل ضمن أحداث وحوارات، فكان لها لمسة جمالية خدمت فنية الرواية وجعلتها أكثر ثراء وخصبا.
أوسلو
المسألة الثانية التي هيمنت على أحداث الرواية أوسلو وما ترتب عليه من اتفاقيات قلبت طبيعة الصراع وشوهة الواقع، فأصبح المناضل يقوم بدور المخبر والجلاد، وأصبح المحتل صديق السلطة: "لقد داسوا على جثث شهدائنا حين اقتادونا إلى مقراتهم كالمجرمين واللصوص، هكذا كافأوا آباء الشهداء" ص40، من هنا سنجد الأثر السلبي على المناضلين الذين اعتقلوا على يد السلطة، وأيضا أولئك الذين تخلت عنهم الاتفاقيات وجعلتهم مواطنين إسرائيليين، يحدثنا يوسف عن هذا الأمر بقوله: "كنت منتفخا بالأحلام الجماعية، والآن تقيأتها كلهادفعة واحدة، ... فمنذ سلام الشجعان يا غريب لم أذكر أن تلفظت باسم فلسطين أصبحت من المثلث وحسب لا من فلسطين" ص69، إذا أوسلو مزقت جغرافية فلسطين وشعبها، ولم يعد هناك فلسطين الموحدة ولا شعب فلسطيني الواحد، وهذا انعكس سلبيا على المواطنين الذين فقدوا هويتهم الوطنية، وأخرجتهم من حلبة الصراع ولم يعودوا ـ ضمن الاتفاقيات ـ جزءا أصيلا من الشعب الفلسطيني.
ويرى "يوسف" السلطة بهذا الشكل: "لقد تنازلوا عن الوطن يا صاحبي، وعندما قبلوا باستعادة جزء منه، قدموا لذلك قربانا أثمن مما استعادوه، قدموا أحلامنا نحن، دفنوها تحت مقرات شيدوها، وهي على قيد الحياة" ص71، وهذا ما جعله يفقد البوصلة ويذهب إلى النساء والخمرة محاولا تفريغ نقمته على السلطة وجاء بها من خلال تعاطي الخمر والنساء: "لقد اخترت طريقي وأدركت ما يجب علي فعله، القليل من الخمر والنسيان مع الكثير من الأنا، لم أعد عبدا للأحلام الجماعية ولا دودة قز ساذجة تمنح حريرها لمن لا يستحقه" ص90و91، إذن ردة الفعل تجاه أسلو كانت سلبية على المناضلين الذي فقدوا البوصلة، ولم يعودوا يرو نضال ولا مناضلين، بل تجار وسماسرة: "يرى قيادة شعبه تهرب أبناءها إلى خارج الوطن لدراسة الموسيقى والفنون الجميلة، أو قيادات السلطة الذين يتفاخرون بمزايا (v.i.p) بينما بقية الشعب تذل على المعابر والحواجز" ص105، نلاحظ أن تراكمات أوسلو ومخلفاته لا تتوقف عند حد معين، فنجدها تتهاوى أكثر إلى الأسفل، بحيث لم يعد هناك أي قوة/حاجز/ مانع يحد من انزلاقها وتدهورها، فهي كرة ثلج ما زالت تتدحرج وتكبر وتتضخم وتأخذ كل ما هو أمامها، حتى الأشجار المعمرة قلعتها من جذورها.
ويختم السارد رؤيته لأوسلو من خلال حوار تم بين "هلا وغريب":
"ـ لم يعطوا فرصة للسلام
ـ ذلك السلام لم يعطينا فرصة للعودة إلى ديارنا.
ـ لكنه يعطي فرصة للعيش بأمن على الأقل
ـ العيش الذي تتحدثين عنه، بلا كرامة ولا قيمة" ص304، وبهذا يكون أوسلو مقبرة للفلسطيني وقبر لفلسطين.
غريب
"غريب" الشخصية المركزية في الرواية، وهو من يدير الأحداث من وراء الستار، فرغم أن هناك سارد خارجي/عليم، إلا أن القارئ يشعر أن هناك تماثلا بين السارد وغريب، لهذا نجده يسرد بصيغة تداعي ضمير المخاطب، وهذا الأمر يشير إلى انحياز واضح لشخصية "غريب" الذي قدم على أنه (بطل) مطلق بأفكاره ومبادئه، ويمتاز بكل صفات الكمال والنبل، لكن فعله غير قناعته ولا يمثله.
بعد أوسلو يتعرض لاعتقال على يد رجال السلطة، يتحدث لأمه عما يعانيه ألم، وكيف أنه خارج القطيع الذي انساق وراء مصالحه الشخصية:
"ـ كفرت بفكرة هذا الوطن الذي يبتلع أبناءه، ثم يلفظهم مذلولين مهانين" ص57، وهذا ما جعله يغادر بيته ويصارح "معلمه "أبو نضال" بما يجول في نفسه من صراع: "ـ الشيء الوحيد الذي أعرف هو أنني أهرب من شيء لا أعرفه، قد يكون مواجهة هذا الواقع أو مواجهة نفسي أو والدي" ص75، نلاحظ أن "غريب" غير منسجم مع إفرازات أوسلو ولا مع نهج أوسلو، بمعنى أنه ما زال متمسك بمبادئ الثورة وأخلاق الثوار، لهذا لم يقبل أن يكون في موقع/ مركز يحصل من خلاله على امتيازات مالية ومعنوية، لتعارض ذلك مع قناعاته وأفكاره وطبيعته المتمردة: "منذ خروجي من السجن وأنا في حالة صدمة تدفعني للعزلة والاكتئاب، ينتابني شعور غريب بأنني ميت وأشعر أن جسدي تحرر وروحي بقيت معتقلة" ص75و76، هذا الصراع هو ما يميز "غريب" عن الآخرين، شعوره بأن هناك ما هو غير سوي، وأن ما يجري على الأرض لا يمثل الحلم/الأمل/ الهدف الذي آمن منه ودفع ثمنا باهضا لأجله، على النقيض من أولئك الذين ركبوا الموجة وتخلوا عن قناعاتهم مقابل ثمن بخس، مركز ومال.
يغادر غريب" مناطق السلطة إلى الداخل، ليقيم عند "سماح" محاولا إيجاد ما يخفف عنده صدمة الاعتقال السياسي الذي تعرض له، حيث كان منهارا:
"ـ أنني في مراحل احتراقي، أنا حديث الهزيمة والانكسار والصدمة والخذلان والفرار إلى البحث عن الذات بعيدا عن كل ذلك" ص144، وهنا يمارس "غريب" تمردا آخر يمثل نبله وصدق مشاعره الوطنية تجاه ما يجري بعد أوسلو، فرغم وجوده مع فتاة وبمفردهما وفي شقة خاصة، ورغم وضعه البائس والمنهار، ومع أنهما يشربان الخمر إلا أنهما لم يقيما علاقة جنسية ولم يفرغ غضبه/اضطرابه/ حزنه في جسد "سماح".
وبعد أن يتم اعتقاله من قبل الاحتلال مرة أخرى يتحدث عن رؤيته للواقع بقوله: "ـ لم أتخل عن شيء، لكن الحلم والأمل، داخل هذه المعتقلات أصبحنا أقرب إلى أدوات التعذيب، إنها سنوات من العمر تمر ونحن ننتظر فقط ونحيا على الحلم، لقد تحولنا إلى فعل انتظار، ذلك صعب يا دانيال وسط ما تعيشه من تفكك وترهل" ص152، هذا الصراع هو ما يميز "غريب" عن غيره، فهو يشعرنا بأننا أمام إنسان وليس أمام بطل خارق، فهو يتألم، يضعف، وبما أنه يوصل ألمه لنا بطريقة غير مباشرة ـ من خلال صديقه "دانيال" ـ فإن هذا جعله قريب منا نحن القراء، وجعلنا ننحاز لمواقفه ونتعاطف معه.
الإنسان في حالة الضعف والاضطراب يبحث عن وسيلة/شيء يخفف عنه ما علق به من هموم وألم، من هذه الوسائل، المرأة، فهي ملجأ للرجل وملاذه، "غريب" يتواجد مع "هلا" في شقة منفردة حيث أبدت رغبتها به من خلال: "اقتربت إليه أكثر فشعر بسخونة جسدها تفوق دفء الموقدة، لامست برؤوس أصابعها وجنتيه وانعطفت إلى شفاهه، أحسن برعشة تسري في أنحاء جسده، لم يقاومها، طبعت قبلة ساخنة على وجنته، فارتبك واستلذ معا، أنزلت يدها ووضعتها بين فخذيه فانتفض وأبعد يدها خائفا ومبررا بأن ذلك مبكر.
ـ ألا أعجبك يا غريب؟
ـ بلى، لكن.. يجب إلا نبني ذاكرة لنا تبدأ من سير، ثم لا أريد أن أراك عارية مثل روحي" ص208، هذا المشهد يبين تميز "غريب" وانفراده، فهو لا يبحث عن الجنس كجنس، ولا يعتبر المرأة وسيلة للتفريغ الشهوة، وما حديثه عن العري إلا إشارة إلى تلك الأفكار النبيلة التي يؤمن بها، وإذا أخذنا الحالة النفسية الضعيفة والمنهارة، وما هو متاح له من مكان مناسب وامرأة تشع بالشهوة، وخمرة تعطيه طاقة ليتوغل بشهوته إلى جسد "هلا" ولتفريغ بما به من طاقة، نصل إلى أننا أمام شخص يتحكم بغريزته/ شهوته، ويقدر أن يمنع ذاته على ممارسة ما لا ينسجم مع قناعاته ومبادئه، حتى وهو في ذروة الانكسار.
ويأخذنا إلى نظرته للجنس وكيف أنه يجيء كرد فعل على الواقع السياسي البائس: "ـ هل تودين أن أضاجعك الآن؟
ـ هل تريد أنت ذلك؟
ـ أريد أن أغرز خنجري في لحم أوسلو" ص210، إذن ممارسة الجنس عن "غريب" ليست بدافع الشهوة والغريزة بقدر ردة فعل على ما يعانيه من ضياع وخذلان بعد أن تخلى (القادة) عن الثورة والثوار.
لم يتوقف الصراع داخل "غريب" حتى بعد أن تعرف على مجموعة من النساء "هلا، سماح، أمل، دنيا" فاستمر يعاني من الاغتراب حتى وهو في مكان وظرف يستطيع أن يمارس حياته كإنسان سوي/ عادي: "سيل من الأسئلة تدفق أمامه، أين كان؟ وأين هو الآن؟ بعد أن كان يحمل قضية في معسكر الاعتقال، أصبح يحمل كأسا، استبدل بمعبده المقدس وبندقيته وأحلامه ملاذا ذاتيا، وشقة مفروشة شيدت على أنقاض قرى مدينته المهجرة" ص280، هذه المشاعر تؤكد أن هناك إنسان حي داخل "غريب" ما زال يمارس (المقاومة) رغم ما يمر به من انكسار وما يعيشه من (ترف)، لهذا هو (شكلا) يمارس الرذيلة، لكن باطنه/ داخلة ما زال نقيا ناصعا.
وإذا ما توقفنا عن تكراره عبارة "المعبد المقدس" الذي جاء في أكثر من موضع في الرواية نستنتج أن العقل الباطن لغريب ما زال محافظا على قدسية المبادئ والقيم الثورية التي تربى عليها، وما يمارسه من (انفلات) مع النساء ومن تعاطي الخمر، ما هو إلا ردة فعل لا تعبر عن جوهره النبيل والصادق.
من هنا عندما يمارس الجنس مع "هلا" يبتعد السارد العليم من الواجهة ويترك المجال أمام "غريب" ليتحدث بنفسه عن نفسه وما أصابه من مس بعد أن اقترف الرذيلة: "الخوف الغامض يتلبسك كشيطان لا ينفك يوسوس في أذنك وقلبك، تستجدي نوما أعمق ينجيك من سكاكين الندم التي أوغلت في روحك، تنهض من السرير عاريا باتجاه الباب لتغسل عن جسدك مخلفات الشهوة، وأنت على قناعة بأن الماء لن يغسل روحك التي أفسدتها ... لم يكن فرجا إنما عش دبابير تطن بصخب، تحاول الخروج لافتراسك، ثدياها تحولا إلى أفاع سامة اختلط فحيحها بطنين الدبابير، تحاول التحرك وتعجز، تستجدي بصوتك فتخذل، تكاد تختنق كلما حاولت الالتفات نحو هلا النائمة" ص282و283، إذا ما توقفنا عند الألفاظ التي جاءت في المقطع سنجد أنها مكونة من حروف مكررة، السين والواو في "يوسوس" الكاف في "سكاكين" الباء في "دبابير" الحاء في "فحيحها" النون في "بطنين" وهذا له علاقة باللقاء الجسدي الذي تم، فهذه الألفاظ بحد ذاتها توصل فكرة التلاقي، وبما أن اللقاء لم يكن طبيعيا/ عاديا بل جاء كردة فعل وناتج عن حالة اضطراب وصراع، لهذا استخدم "غريب" "الأفاعي والدبابير" كناية عن عدم انسجامه مع ما جري له وما مارسه.
كما نجد "غريب" يفرق بين الجسد الروح، من هناك تحدث عن إمكانية غسيل الجسد: "لتغسل عن جسدك مخلفات الشهوة" واستحالة غسل الروح: "بأن الماء لن يغسل روحك" وهذا له علاقة بما قلناه عن الشكل والجوهر، فشكلا كان "غريب" يمارس الرذيلة، شرب الخمر، علاقة غير سوية مع النساء، هجره لبيته ولأهله، تخليه عن دور المناضل والثائر، لكن داخله لم يكن يوافق على هذه الأفعال، وما الصراع الداخلي الذي لازمه من بداية الرواية حتى نهايتها إلا تأكيدا لوجود روحا حيةا ما زالت تنبض داخله، وتجعله غير راض عما يفعله الجسد: "أزاح عنه الغطاء فخجل من نفسه على هريه الفاضح" ص284، إذن يبدو وكأن هناك شخصان، شخص يفعل، وشخص يرفض، وهذا ما يميز الرواية، عدم تقديم بطل مطلق، تنسجم أقواله/ تفكيره مع أفعاله/ أعماله، فكان سلوكه دائما يواجه بأفكار تحول دون تلذذه وتمتعه بما يقوم به.
ما اقترفه "غريب" من الصعب أن يغتفر، لهذا أراد أن يقوم بطقس/ بفعل (مجنون) يحرر به جسده المدنس بالرذيلة ويزيل عنه ما علق به من خطيئة: "توقفت بناء على طلبه السابق في حي العجمي، الساعة كانت قريبة من الثانية فجرا، والشوارع شبه خالية في هذه الليلة الممطرة، خلع حذاءه وترجل من السيارة أمام ذهول هلا، كان البرد قاسيا والريح شديدة... عندما اقتربت منه سمعته يحدث الحجارة والطرقات الفارغة بكلمات غير مفهومة ... فتح بابها وتوقف مطلقا ضحكة صاخبة، والدمع ملأ عينيه فغسله ماء المطر" ص326 و327، إذا ما توقفنا عند حديثه السابق هو في الشقة وغسيله لجسده دون روحه، يمكننا فهم/ تبرير ما قام به في هذه المشهد، فهو يريد استعادة جسده بعد أن لدغته الأفعى، لهذا لم ير/ لم يجد ماء الشقة صالحا لتطهير روحة وطهور جسده، فكان السير بجسده الملوث وتحت المطر وفي مكان (مقدس) يافا، ومناجاة روحه لتغفر له خطيئته التي اقترفها مع هلا.
سرد الرواية
اللافت في سرد الرواية أن الأحداث التي جاءت من داخل الأسر/ السجن كانت صغيرة الحجم، بحيث لم يتجاوز الفصل عشرة صفحات، بينما الفصول التي تحدث عن خارج الأسر/ السجن جاءت أطول، حتى أن الفصل (24) جاء بواحد وثلاثين صفحة وهذا يشير إلى أن العقل الباطن للكاتب/ للسارد يأخذه إلى الحرية والانطلاق نحو الحياة، بينما السجن/ الأسر يجعله ينكمش على ذاته فجاءت فصول الأسر والسجن قليلة الصفحات.
الرواية من منشورات الرعاة للدراسات والنشر، رام الله، فلسطين، جسور للنشر والتوزيع، عمان، الأردن. الطبعة الأولى 2023.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق