أبحث عن موضوع

الجمعة، 20 يناير 2023

فصل من رواية: "إخوان الهشاشة".......... بقلم : عيسى حموتي - المغرب





رن الجوال، إنه الولي..
ـ " هل عاد للحديث عن زواج الجهل بالأمية أم يرغب في مناقشة أمر ما؟ تردد "جوهر" في فتح الخط.. كرر طلب المكالمة... فتح الخط وقبل أن ينبس جوهر مرحّبا سمع:
ـ السلام عليكم.
ليرد التحية:
ـ مرحبا وليَّنا، كيف تسير أحوالك؟
ــ أين أنت يا صانع الأوهام؟ لم أحظ بإطلالة منك منذ أحلْتني على الكتاب الذي حلق بي في عوالم لا حدود لها، عوالم أرحب مما ارتدته طيلة حياتي. لا أخفيك أني أحس بفراغ عميق ولذلك لم أجد بدا من مكالمتك. لقد رفض الجهل أن يتزوج من الأمية، مشترطا عليها التحرر من ولايتي، وهذا نتيجة تحريضك.
ــ أرأيت أيها الولي، حتى الجهل الذي قضيت حياتك تدافع عنه، قد أبدى قابلية للتطور،وطلب الانعتاق من قيود الماضي، ساعيا إلى الانخراط في الحاضر، لا بد أن هذه الهزة العنيفة التي ألمت به جعلته يدرك هشاشته.. تطور مهم، لكن لدي من الأولويات ما يحول دون رؤيتك الآن، هلا أجلت الموضوع إلى وقت لاحق، أنا الآن في طريقي لعيادة نضال فهو طريح الفراش...
ــ هلا انتظرتني، لدي رغبة في لقائه بعد كل ما عرفتُه عن شخصه ولعل هذه فرصتي؟
ــ شريطة أن تعدني.
ــ بماذا أعدك؟
ــ ألا تأتيه بتميمة...
ــ سامحك الله، لقد ولى عهد التمائم، ولن أفتح لائحة معارفي الجدد إلا بما يتناسب مع أزيائهم.
ــ مرحبا أنا بانتظارك، لكن أسرع فالمسافة طويلة بين الماضي والحاضر لا تبطئ، استقل وسيلة نقل سريعة.
ــ لا عليك أتواجد على الحدود بينهما.
...
كان قلب نضال موصولا إلى آلة ترسم سير نبضه بواسطة أسلاك مثبتة إلى صدره.
ـ كيف حالك يا قاهر الزمان؟ هذا "وليّنا".
ــ تشرفت يا وليّنا.
ــ كل الشرف لي، ما عرفتُه عن مسارك، ولّد لدي رغبة عارمة في التعرف إليك. كيف حالك سيد نضال؟ أتمنى أن تمر الوعكة بردا وسلاما بإذن الله، وأن يرفع عنك الضرر... لا يبتلي الله إلا عباده الصالحين...المؤمن مصاب... و...
ــ ألم أقل لك لا للتمائم؟ !
تدخل المريض:
ــ لا عليه يا "جوهر"، لكل منا خطابه، دعه يعبر عن ذاته...
أطعم رئتيه عن طريق إلقاء بوز بخّاخ في فمه، وأضاف:
ــ لقد عمرت طويلا، وهواء أحيائنا خانق قل وندر أن تحمل لك ريحه جرعة أكسجين، كله رطوبة ولوث وصقيع وهذا ما جعلني أعاني من الربو منذ حلولي به، أضحيت لا أتنفس إلا إذا استعنت بعبوات تأتيني من بلاد الكفر الكريم. وها دمائي اليوم تتعثر في شراييني، جراء ما تعرضت له، إلى درجة تعذر عليها الوصول إلى الخلايا الهامشية والنائية، وكأن الإصابة الأخيرة وضعت عمدا متاريس سدت طريقها، لا لتقتل الجسد بل لتحمل الروح على هجره، وتستفيد منه النخب التي ستعمل على تحنيطه وتضعه في المتحف فرجة للسائح مقابل العملات الذليلة.
ــ هل أسمح لنفسي أن أسألك أن تحدثني عن النخب؟
قال"جوهر" يحاول أن يثنيه عن إزعاج المريض:
ــ ألا ترى يا ولينا أن المقام لا يسمح بذلك.
غير أن نضال يأبى إلا أن يؤدي رسالته التي كرس نفسه لها.
ــ دعه يا جوهر، قد لا تكون أمامه فرصة أخرى سانحة ليكون فكرة واضحة عن نخب بني عبد رسم وبني طلل، الطاعنة في الخيانة، الضالعة في النفاق. تشتري بالعقيدة ثمنا قليلا
ــ النخب يا ولينا هي كل أولئك الذين تعتقد أنهم أصواتٌ فاعلة، تجلجل، تصول وتجول وهي تؤمن بماض أكل عليه الدهر وشرب، تدعي أنه أجدى سلاح في الزمان والمكان،غير مدركة أنه الهاشة نفسها. تقف عند حدود الماضي،تحرم على نفسها الاشرئباب إلى الحاضر. ودون خجل أو حياء، تؤمن بصحة ما أبطله العقل السليم، لا لشيء سوى أنها تؤمن بأساطير الأولين. تسلك طريقا يسير في الاتجاه المعاكس لحركة الحاضر... والأدهى أنها تنتمي إلى نفس التوجه، وتتراشق فيما بينها بالاتهامات، شيئا فشيئا تصعّد في التراشق حتى إذا انسحب النزر القليل من العقل اليسير عن جماجمهم، لاح غيلان القوة العضلية والنارية، يحرق سلاح الحوار الذي لم يسمح لها مالك رقها باستيراد سوى أضعفِه، أو الذي نال منه الصدأ. تحجز بباهض الأثمان مقاعد في الصفوف الأخيرة في المحافل الدولية، وتدفع ثمن كل جزء ثانية، أو مساحة حرف في وسائل الاتصال والإعلام لتوهم القواعد أن لها أصواتا تقوم عليها الأركان، وعليها يشيد البنيان، بل هي أوتاد الزمان. وما هي في الحقيقة إلا أصداء من رعاع، لأصوات جهات تملك رقهم ورجع لها يخدم مآرب الأسياد، تحدث إيقاعات رنانة في الأذن، لكنها سرعان ما تتبدد وتتلاشى في الهواء.
نظر إليه الولي بإعجاب وبصم يزكي:
ــ صدقت والله.
ــ أما عن حالي الصحي يا ولينا، فلا خوف علي، اعتبرني من الآن معافى، لقد توصلت اللحظة برسالة تفيد أنني خضعت لعملية زرع قلبِ الخلود وبعد أيام سأخضع لزرع رئتي الخلود أيضا، لقد نصح الأطباء بحمية تقضي بالتقليل من زيارة أحياء بني عبد رسم وبني طلل. والإكثار من الاحتجاجات، والاتصال بكل الأحرار في العالم.
هنأه "جوهر" على نجاح العملية والتماثل للشفاء. لكن الولي لم يستسغ الخبر، لبسته الحيرة حتى بدا القلق على محياه، لم يتمالك نفسه، همس في أذن جوهر:
ــ هل، فقد نضال صوابه، أم هو يهذي أم هو الموت؟ طمئني، أتصدق ما قاله للتو؟
ــ أما عن فقدان صوابه فهو أعقل مني، وأما عن الهذيان فأنت من أصبح محموما إلى حد الهذيان، وأما عن تصديقي لما قاله، فلا تنس أن الإعدام على اختلاف أساليبه وتنوع وسائله لم يستطع النيل منه.
ــ كيف يخضع لعملية جراحية، بل لزرع القلب في بلاد الكفر الكريم- كما أسماه ـ وهو معنا هنا؟ أيمكنه أن يحتل مكانين متباعدين في نفس الوقت؟ بل كيف يحادثنا وهو تحت رحمة طاقم الأطباء يخضع لعملية زرع القلب؟
ــ هذا ما لا يستطيع إدراكه من يسجن نفسه في قوقعة الماضي، ويضع أسلاكا مشحونة بالتيار الكهربائي بينه وبين الحاضر والمستقبل. سأحاول أن أشرح لك بما تستطيع أن تفهمه؛ هل تركب سيارة حديثة الصنع، ألا تفتحها عن بعد؟ ألا تستعمل بطاقة لتشغيل المحرك؟ ألا تستعمل الهاتف تتوصل من خلاله بالصوت والصورة؟ بل هل رأيت أشخاصا خضعوا لعمليات طبية بدون جراحة بل هل سمعت بطائرة دون طيار؟ بل هل لديك فكرة كيف يدرس أهل الأرض الكواكب والنجوم....؟
ــ أم م مم.
ظننت أنه "أمّ"لكونه منشغلا بربط قول نضال بالمثال المادي الأقرب إليه، لكنه فاجأني:
ــ هذا شبيه بمفعول التمائم، فكم من مريض، حكم عليه الأطباء بالموت مدعين أن مرضه لا يشفى، لجأ إلى أولياء الله المداوين عن طريق بعض التعاويذ وعن طريق تعليق التمائم بعد دفنها في مطرح النفايات لسبع ليال مقمرات...
قاطع"جوهر" رفيقه في العيادة بالشروع في قراءة الفاتحة.
تلا العائدان سورة الفاتحة ترحما على روح آدم، وعين نضال تنز. ثم ودّعا المريض داعيين له بالشفاء العاجل، وعلى أمل اللقاء... توقفا عند مفترق الزمان، تذكر جوهر أن الولي كان يرغب في محادثته في شأن العروسين وقال:
ــ كلي آذان صاغية، حدثني ماذا وراءك يا أخ الأولياء؟
ــ كنت أود محادثتك في شأن الشاب الذي كان من المفروض أن يتزوج قريبتي، لقد بدل رأيه.
ــ أ لم أقل لك أن هذا النوع من الشباب ليس راشدا والدليل أنه بدل رأيه دون أن تواجهه أية صعوبة، فما بالك لو عشقته بنات الدهر؟ لكن لا بأس فهو مؤشر على على رفضه للهشاشة.
ــ هو لم يتراجع عن الزواج فحسب، بل اشترط شرطا خطيرا.
ــ وما الشرط يا ترى؟
ــ أن تتحرر زوجة المستقبل من الولاية.
ــ دعنا منه، وقل لي ما رأيك أنت؟
ــ كيف أتخلى عن شرط أساسي في زواجنا، وجدنا آباءنا يعملون به كما وجدوا آباءهم يعملون به. لا يصح الخروج عن كل ما يشكل هويتنا، لست أنا من سننتها. لا ورب الكعبة لن أفعل.
ـ ألم تدرك بعد أن في الماضي لبا وقشورا، كما أن في الحاضر كذلك لبا وقشورا؟ وبعد ألم تقل إنهما راشدان؟
ــ بلى، هما راشدان
ــ وما رأيك في موقف الشاب أليس نوعا من الرشد؟
ــ أي رشد هذا؟
ــ يريد زوجة حرة في تفكيرها في اختيارها في اتخاذ قرارها بكل حرية.
ــ ولكنها لا تعرف كيف تتصرف في أمر الزواج.
ــ هل علمها ذووها كيف تتصرف بحرية؟ وهل ستتصرف وفق ما تمليه عليها أنت وهي في بيت زوجها؟
ــ لا بالطبع.
ــ ولم لا تدعها تكون ولي نفسها؟ يا ولينا، كيف تعتقد أن المرأة لا تحسن التصرف في حياتها، ولا بد لها من ولي يتولى أمرها؟
ــ لا يهم ماذا أعتقد، المهم أنها ناقصة عقلا ودينا.
ــ باعتبار هذا النقص لا يمكن أن يرشدن، وغير العاقل يرفع عليه القلم، ولماذا نجدهن يوم القيامة يسري عليهن ما يسري على الرجل؟ وبعد دعنا من الغيب ولنبق في الدنيا، عندما يشتد المرض بزوجتك ألا تعرضها على طبيب؟
ــ بلى، أعرضها،لكن على طبيبة، وليس على طبيب
ابتسم، بل ضحك، قبل أن يستأنف
ــ أليست الطبيبة امرأة لا يختلف حكمها عن حكم من تتولى أمرها؟ ألا ترى أن الكثير من الأمم تقودها نساء بيد من حديد كآل جرمان وغيرها كثير؟ ما قولك فيهن؟
ــ هل تصدق بالله؟
ــ ونعم بالله.
ــ لم أعد أفهم شيئا وأكثر من هذا إن رأسي بدأت تجعني.
ــ أمر طبيعي أن تَجَعَك، فحينما يقضي المرء عمرا وهو يعيش على الإرث، دون أن يعمل العقل تؤلمه رأسه عند أول اصطدام يقع في دماغه بين الموروث والواقع.
ــ أمدح هذا أم قدح؟
ــ لا هذا ولا ذاك، كل ما في الأمر أن الماضي يضع لك خطوطا حمراء مزيفة، ويبني بينك وبين الواقع أسوارا عالية من المغالطات، وأنت لا تستطيع القفز خارجها، بل لا تجرؤ على التفكير في ذلك رغم أن بداخلك صوتا يتحفز للوثوب لكنه يخشى تمزيق شرنقتها، أتدري لماذا؟ لأنك لا تفتأ تردد أساطير الأولين.
ــ لا أعرف من الأساطير غير أساطير اليونان والرومان وأساطير الحضارات القديمة، وكلها شرك وأوثان.
ــ هناك أساطير تؤمن بها وتجهل أنها أساطير، لأن الأسوار التي لا تستطيع القفز عليها هي من تحجب عنك الرؤية، بل هناك أساطير ترتبط بالحاضر والمستقبل.
ــ لو لم تكن رأسي تؤلمني لناقشت معك موضوع الأسطورة.
ــ أحسنتْ رأسُك فعلا، فنحن واقفان على مفترق الطرق كما كنا دائما، ولكل منا وجهته.
***



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق