أبحث عن موضوع

الجمعة، 17 ديسمبر 2021

ـ عتبات النص الادبي / مقاربة نظرية .............. بقلم : باسم عبد الكريم الفضلي // العراق




تتجاذب داخل العمل الفني عناصر "داخلية محايثة" ،و أخرى "خارجية محيطة" مجاورة له.وقد أسهم الوعي النقدي الجديد في إثارة علاقة العتبات و النصوص المحيطة أو المجاورة بالنص المركزي، فأضحى مفهوم العتبة نتيجة ذلك، مكوِّناً نصيا جوهريا له خصائصه الشكلية ،ووظائفه الدلالية التي تؤهله للإنخراط في مساءلة و محاورة"بنيةالنص" و "أفق التوقع".
اولاً ـ مفهوم العتبات النصية:
يمكن النظر إلى خطاب العتبات من منظور جمالي مؤثر ، لا مجرد محطة تواصلية عابرة أحادية المظهر، و بسيطة التكوين ، اي أنها أضحت ظواهراً نصية معقدة و ملتبسة لا تبوح بكل مدلولاتها ، فهو كامن في منطق تكوُّنها ، وفي ماتضمره من معان ودلالات ، غير تلك الظاهرة.
ولابد لأي اثر أدبي ان تكون له نصوص محيطة أو مجاورة ، بمعنى " نصوص محايثة" تتنوع بين صيغ تقديم الأثر الأدبي ( إثبات الكاتب لإسمه، التفنن في صياغة العنوان، الاهداء ،اختيار صور أغلفة الأعمال، المقدمات ...الخ )
وتقتضي عملية الإحاطة الشاملة بالأثر الأدبي الاستحضار الذهني لمختلف هذه الوسائل المادية من خلال موقعها في فضاء النص باعتباره كلية "دالة" أو نسقاً من العلامات الدالة، من جهة، وفي علاقتها بالنص المركزي من جهة أخرى ، ومهمة الناقد الأساسية تكمن في إبراز مظاهر تحقق هذه العلامات أولا ،و كيفية اشتغال نسقها ثانيا، و مظاهر تعددية دلالاتها ثالثا.وهذا ما يفترض استثمار العتبات التي تتشكل في ملفوظات لغوية أو صيغ ايقونية(الرسوم، و الصور…)،أو مادية (نوعية الطباعة، مقاييس الكتابة،أحجام الحروف و السطور…)،شريطة استحضار درجة اندماجها (أي العتبات )داخل فضاء الأثر الأدبي، أو موقعها داخل النسيج النصي ، فاندماج العتبات و النصوص المحاذية في فضاء النص يوصف بـ "العتبات و النصوص المحيطة" ،و انفصالها عن فضاء النص يصطلح عليه بـ "النصوص المحاذية اللاحقة"
-أ- النصوص المحيطة:
تتوزع العتبات المحيطة بالنص إلى :
أ-1/ عتبات و نصوص محيطة خارجية :
وهي مجموع العناصر التي تؤثث فضاء صفحة الغلاف الخارجية من قبيل : العنوان، اسم المؤلف، التعيين الجنسي، صورة الغلاف، ومحتويات الصفحة الأخيرة……
أ-2/ نصوص محيطة داخلية:
و تتضمن معطيات داخلية محايثة كالإهداء، و الخطاب التقديمي ،و النصوص التوجيهية، و العناوين الداخلية، و الحواشي، و مختلف التذييلات بوصها عناصر دالة تؤمن العبور إلى المتن المركزي أو الفضاء الداخلي للنص.
– ب -النصوص المحاذية اللاحقة:
أهمية هذا النوع من النصوص تكمن أساسا في تحديد مقاصد الكتاب، أو رصد رهانات الكاتب الإبداعية.ومن ابرز عناصر العتبات اللاحقة نذكر: الاستجوابات الصحفية، و الحوارات، و الاعترافات، و الشهادات .و إجرائية هذه النصوص المحاذية اللاحقة تظهر من خلال الحد من مسؤولية الكاتب إزاء بعض هذه العتبات من قبيل: استدراكه لتأويل غير مناسب لمنجزه الابداعي بقوله: ليس هذا بالضبط ما أريد قوله، أو أنها أفكار مرتجلة ، ..،وماشابه.
وبهذا المعنى، فهذه العتبات و النصوص المحيطة مرتبطة ارتباطا عضويا بالكاتب ، كما تشكل جسر عبور قصد الانفتاح على عوالم الكاتب الخارجية و ذلك بالاستئناس بشهاداته وتصريحاته ذات الحمولة الأدبية.
ومهما اختلفت مستويات حضور العتبات و النصوص المحاذية بشقيها(المحيطة ـ اللاحقة)، فإنها تشكل علامات مضيئة لممارسة نوع من الوقع الجمالي و التأثير النفسي و المعرفي على المتلقي لتجسير التواصل مع النص في أفق قراءته قراءة أكثر ملائمة.
كما أن هذه النصوص المحاذية هي بمثابة نصوص مصاحبة تخصب النص ، و تفتح مداه، و تضخ فيه دماءً جديدة، و ترسم شكله الحضوري لأنها تؤكد بعده الأنطولوجي، وترسخ أسس تلقيه و انتشاره وتداوله في السوق الثقافية ككتاب .
ثانياًـ وظائف العتبات:
لا يمكن النظر إلى العتبات باعتبارها خطابا بريئا أو ترفا فكريا يرصع فضاء النص فحسب، بل يستدعي الأمر استثمار هذا الوجود النصي استثمارا جماليا أو إيديولوجيا (عنوان جميل، مقدمة سجالية، صورة مثيرة…)من منطلق القوة اللفظية لهذه العتبات الجاهزة لخدمة شئ آخر، و المخففة من حدة التوتر الذي يعتري القارئ و هو يشرع في تلقي الأثر الأدبي.
كما أن كل عتبة ترسم ملامح هوية النص، وتبني كونا تخييليا محتملا، وتقدم إشارات أسلوبية ودلالية أولية تؤهل القارئ للولوج إلى عالم الكتاب بشكل تدريجي. وبهذا المعنى، فكل عتبة "إحالة مرجعية إيحائية" تعبر عن موقف ما وتحيل على خزين معلوماتي عن المتن المركزي المرتقب.
ويمكن اختزال ابرز وظائف العتبات فيما يلي:
أـ وظيفة إخبارية: تكمن أساسا في الإشارة إلى اسم الكاتب، و دار النشر، و تاريخ النشر ،من جهة، والإحالة على مقصدية ما، أو على سيرورة تأويلية معينة متصلة بالكاتب من جهة أخرى.
ب ـ وظيفة تسمية النص: فالعنوان، على سبيل المثال لا الحصر، باعتباره عتبة أساسية و نصا صغيرا داخل نص كبير، يحيل على اسم الكاتب.
ت ـ وظيفة التعيين الجنسي للنص : فاندراج النص ضمن سلسلة أدبية معينة(رواية، شعر، مسرحية، قصة) تبرر وجوده في الإنتاج الأدبي.
ث ـ وظيفة تحديد مضمون النص و مقصديته: ويضطلع بهذا الدور كل من العناوين الداخلية، و عنوان صفحة الغلاف، و الخطاب التقديمي، و التنبيهات قصد إبراز الغاية من تأليف الكتاب.
ج ـ وظيفة العبور السري للقارئ من اللا نص إلى النص: بحيث إن القارئ يؤدي وظيفة تحقيق الخيال و تخييل الحقيقة.
وعليه، فمجموع هذه العتبات ( بمختلف أدوارها و وظائفها) تجسر التواصل بين خارج النص و داخله. أي: تفتح عالما، و تغلق آخر، و تميز داخلا هو النص (الواقع النصي) عن خارج هو ما قبل النص ( الواقع الخارجي.).
و بالنظر إلى مجموع العتبات و النصوص المحاذية، يمكن تلمس مظاهر هذه النصوص في كل من الكاتب،أو الناشر،أو الرقابة: فما دامت حياة الكاتب محدودة و الأثر الأدبي خالدا، فان للعتبات امتدادات لامحدودة في الزمان و المكان لان يد الناشر،أو مقص الرقيب (اثناء اوبعد وفاة صاحبه)، تتدخل في توجيه مسار بعض النصوص المحيطة ،إضافةً،أو تعديلاً،أو حذفا، من أجل ضمان انتشار و تداول الكتاب بين جمهور القراء مستقبلا.و من هنا، نستخلص لامحدودية مقاربة خطاب العتبات بفعل تعدد طبعات الكتاب الواحد، وتجدد و استمرار الإضافات التي تلحقه ،بشكل مباشر، أو غير مباشر.
ثالثاـ الإنتاج النصي بين وقع العتبات و فعل القراءة:
يقتضي الدخول إلى عالم الكتاب مراعاة جملة من الآليات ، و مجاوزة عدد من المنافذ مثال ذلك: العنوان الفوقي(…)،ثم العنوان التحتي(…)كالتوطئات، ونصوص الإهداء، و الإشارات الاستهلالية.. الخ.ولا تكون العودة إلى عالم الواقع،إلا بعبور مخارج النصوص كالملاحق وغيرها من النصوص التي تذيل بها الكتب.
و من هذه الزاوية، فالعتبات المحيطة بالنص تشكل نقطة التماس الأولى التي تجسر التواصل بين الكتاب و القراء، من خلال المراهنة على وعيهم الذي يبلور أفعالاً قرائية مختلفة ( باختلاف عمق ذلك الوعي وأفق توقعاتهم ) تؤسس لتواصلية غير مرهونة فقط بالعلامات المصاحبة للكتاب نفسه، بل بمجموع المعلومات و الأخبار المستخلصة من النصوص المحاذية كالإشهار و استجواب المؤلف..
ان هذه العتبات ،بالإضافة إلى كونها مواقع نصية انتقالية، فهي مواقع تعاقدية، لأنها موجهة لأكبر عدد قراء النص بفضل موقعها الخارجي على صدر الغلاف ،من جهة، ولأهميتها في إثارة انتباه القارئ سواء كان قارئا كامناأو محتملا،من جهة أخرى، رغم اختلاف زوايا النظر إلى العتبات النصية المحيطة حسب المراحل، و الثقافات، و الأجناس الأدبية، و الكتاب أنفسهم، مما يولد نتائج متباينة على مستوى الإنتاج و التلقي.
وفعل القراءة يتأسس ،وفق جمالية التلقي، على التفاعل بين بنية العمل الفني(القطب الفني) ،و متلقيه (القطب الجمالي )، ففعل القراءة يسهم في " الإنتاج الفعلي" للنص من خلال دور القارئ التأويلي و ملأ الفراغات / اكتشاف المسكوت عنه ،وهذا يعني أن للظاهرة الأدبية مستويين اثنين:
ـ مستوى الكشف / يقوم به المبدع
ـ مستوى الإبلاغ/ينجزه المتلقي
وهما طرفا العملية التواصلية.وهذا يفترض، تفعيل القارئ إمكانات النص و عتباته ، باعتبارها إرساليات نصية تساعد القارئ على ايجاد موطئ قدم في عالم النص ، و تحفزه، وترسم له أفق توقع محدد.وبذلك، فهي (أي العتبات ) خطاب على الهامش لأنه يوجه فعل القراءة،ويحدد مسار فهم القارئ.وفي هذا الصدد، نشير إلى الإختلافات الجوهرية الموجودة بين مختلف العتبات و أهمية حضورها، فهي ،من جهة، لها خصوصيات في إنتاج نصي، من خلال ما تؤديه كل عتبة فيه من وظيفة على مستوى الدلالة الكلية للنص ،ومن جهة أخرى ، ان لكل عتبة مقاصدها الجماليةوالابلاغيةالتي تعمد إلى تحقيقها ،الشيءالذي يضفي على وجود كل عتبة مشروعية كافية للحفاظ على مكانتها و موقعها.
نخلص اخيراً الى :
ان هذه العتبات تمثل همزة وصل، ولحظة مفصلية حاسمة بين عدة نصوص هامشية (العنوان، الإهداء، الصور، الرسوم، الخطاب التقديمي، …الخ )والنص المركزي.وهذا يعني أنها (أي العتبات) ليست نصوصا معزولة ومستقلة، بل هي إجراء ثابت في ترتيبه زمن الكتابة/ زمن القراءة.
ومن هنا، تأتي أهمية القراءة الأفقية (من العتبة إلى النص) ،والقراءة العمودية(من النص إلى العتبة)في مشروع كل قراءة فعالة غير مغرضة، علما أن سلطة النص أو المتن تشكل مرجعا لامحيد عنه إذا ما تعارضت قراءة العتبة بمحتوى النص المركزي .لان النص يستحضر، بشكل محايث، سائر النصوص المحاذية (المحيطة أو اللاحقة) ، مما يكرس الإرتباط العضوي العميق بين الطرفين.
ولابد من التنويه الى أن هذه العتبات قد تكون ،مضللة، مخادعة، مخاتلة، وزئبقية يصعب على القارئ ،أحيانا، القبض على دلالاتها الهاربة ، وهذا وفق " غائية" يحددها الكاتب ويكون له "قصد" من وراء ذلك على القارئ الفطن ان يقع عليه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق