أبحث عن موضوع

الأحد، 2 فبراير 2020

.الرجل الذي فتح العلبة / ق.ق ............................ بقلم : منى أحمد البريكي _ تونس




ممرض ينظر بعينين مستذئبتين إلى الرجل قبالته. المسكين يقعي واجما،مرتعشا.زوجته مرمية أمامه فوق سرير المستوصف ذي الحشية البيضاء المهترئة التي تخضبت بحمرة قانية احتفاء بوأد حلم أم ليست سوى رقم في سجلات هذه البلدة المنسية.

صرخ الممرض ملء أوداجه ولعاب كريه يتطاير من فيه

:"كيف لا تتخلى عن فكرة الإنجاب وأنت تحت خط الفقر ترزح؟ لعنة الله على رغباتك القميئة التي كادت أن تودي بهذه المسكينة إلى حتفها!"

غمغم الزوج مستعطفا:"أرجوك أنقذها وأعدك أن لا أقربها ثانية.لن أكتوي بتنور حبها ولن أشتهي فاكهة أنوثتها بعد اليوم.

سأغمض عيني عن زرقة عيونها الآسرة ولن ألمس ضفائر شعرها بلون الشرر المتطاير من الحديد المذاب تحت مطرقتي.

لايهمني سوى أن تعيش وصغيرها يا سيدي. لطالما انتظرناه كما ينتظر الصائم في نهار قائظ كأس ماء بارد عند الغروب."

سكت فرحات حين رأى الطبيب يهرول إلى حبيبته ويسدل الستار عليها ليفحصها.

شرد بذهنه خارجا وهو يتذكر كيف فاجأها المخاض البارحة وبحث عن سيارة تنقلها بلا جدوى فاضطر لحملها على عربة يجرها حمار جاره الأشهب.كانت الطريق الترابية ضيقة إلى حد شعوره بأشواك السدر المنتشر على جانبي الطريق تخزه بين حين وآخر وهو يلهب مؤخرة الحيوان بسوطه ليسرع أكثر ويهش بها على الكلاب الضالة التي تعيق سيره ونباحها ينافس صراخ مسعودة التي كانت تتألم وتصدر أصواتا كالعواء تارة ،وطورا تهمس متضرعة إلى الله.

كان يود لو يطوي ظلمة الليل طيا فلا تشرق عليهما الشمس إلا وقد تحقق حلم انتظراه منذ عشر سنين.

وصل إلى المستشفى بعد لأي.لقد أخذوا مسعودة في سيارة الإسعاف التي جاءت إثر ساعتين من الانتظار القاتل.

كان يتألم لآلامها وهي تستصرخه مستنجدة:"أرجوك افعل شيئا! إنني أكاد أموت."

لكن ماذا سيفعل المسكين والجميع من حوله كأنهم في سباق مع الزمن وصيحات النساء تدوي بين جنبات قسم التوليد؟

لم يهتم لأمره أحد وهو يتنقل بين مكتب الإستقبال ومكتب الطبيب المنشغل في قاعة العمليات كما أخبرته المنظفة آنذاك.

يقف أمام غرفة العمليات منتظرا وتمر بذاكرته أول مرة رآها وهي تمتطي شاحنة تقل عاملات الفلاحة وقد وقفن متلاصقات لكثرتهن.

يومها لم يتسن له أن يعرف عددهن لأنه بقي مأخوذا بسماحة وجهها وقوامها المرسوم بعناية إلهية كشجرة السرو الملاصقة لبيته الريفي المتواضع ويشرد مع كل اللحظات التي أغدقتها عليه بحب وتضحية وهي تجد وتكد لادخار ثمن أدوية وصفها لهما الأطباء لتسهل حملها.تنزل من عينيه دموع حارة ويبتهل إلى الله بالدعاء.

لم يعده من شروده غير صوت الطبيب وهو يخاطبه بعد ساعات طوال كانت دهرا ودون أن يرف له جفن قال:"يؤسفني أن أعلمك أننا لم نستطع إنقاذ المولود وأن حالة الأم حرجة."

غامت الدنيا في عينيه وارتعشت أوصاله كعصفور نضبت كسور جناحيه من الدم.

شعر بأنه يتأرجح كورقة في مهب حزنه الطافح وسنابل فرحته قد اقتلعها الخبر كصاعقة مدوية فصارت هشيما وأحس بأنه قد استحال رمادا يبابا واصطفت بقلبه كل آمال وانكسارات سنين عجاف وتسارعت بنبضه الخائر كمدا لتزفه قربانا للغبن والقهر وعجز يكبله منذ أن شب عن الطوق فقيرا.

شعر بأوار حارق يشب في كبده وارتفع نشيج الفقد معلنا ثكل أب اختطف منه القدر نجما ظنه سراجا لبقية أيام العمر وسندا لقامته التي انحنت تحت وطأة الخصاصة والعمل الشاق.

لطالما تخيله يلعب بركن بيته ويهرع إليه حين عودته يتعلق بعنقه ويغمره بالقبلات .

لم يدر كم بقي ذاهلا عن نفسه ومن حوله ولم يعد إلى رشده إلا حين اقتربت منه ممرضة وبين يديها "كرتونة"مواد غذائية وهي تضعها بجانبه وتقول له:"لا يسمح لك بالبقاء هنا الليلة عليك أن تعود إلى بيتك ولا تنس إمضاء ورق الاستلام عند عون الإستقبال هناك."

أراد أن يحتج ويصيح ويندد بما يحدث معه لكن الكلمات انحبست بحنجرته وهو يحدث نفسه:"ماذا أفعل بمعونة لطالما كنت بحاجة إليها؟ اليوم وقد فقدت ابني قبل أن أراه وزوجتي تصارع من أجل البقاء؟ أليس من حقي أن أفرح مثلهم؟حتى الثور لا يكتفي بعلف يقدم له. أي جريرة اقترفتها يا ربي؟"

هم برمي ما بداخلها.هاله ما رأى!

إنه حلم حياته الموؤود مسجى داخلها كملاك نائم.

صاح صيحة هزت أرجاء القاعة وسقط أرضا وسرعان ما هرول إليه الحاضرون متسائلين ومذهولين لمنظر رضيع ازرق وجهه البريء.

اقترب منه أحدهم متفحصا وقال:"لقد مات الرجل حين فتح العلبة!"


ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، ‏‏وقوف‏‏‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق