أبحث عن موضوع

الاثنين، 24 يونيو 2019

المقامة الرّوحـانيّــة...................... بقلم : منير صويدي _ تونس




حـدّث حنظـلــة قــال:

حلّت الأشهُر الحُرُم بآلائها الكثيرة، وخيراتها الوفيرة، فدبّت في النّفس مشاعر الشّـوق والتّـوق، وأحلام المعراج إلى عالم الصّفـاء والنّقـاء.. وبدأ موسم هجر السّهاد والرّقاد، والدّربة على الاجتهـاد والإجهـاد.. حفظنا التّــراتيـل، وتـركنا الأراجيف والأقاويـل.. ألقيْنـا الدّنيا وراء ظهـرانينـا، وجعلنا سـرّ الخلـود نِصْـبَ أعيُننـا، وسُـبُـلَ النّجـاة بين جوارحنا وأيدينا.. حتّى ضَـمُـرَ الجسـدُ، وهَـزُل البـدَنُ.. وصَفَت النّفسُ من الأحزان، وتطهّر القلبُ من الأدران.. ونسينا كلّ ما فات، واشرأبّت أرواحنا إلى ما هو آت..

وذات ليلة ليْلاء، احتفتْ فيها الكواكبُ والنّجومُ باكتمال البدر في كبد السّماء، وانتشار نورِه الشّعشعانيّ الوضّاء في كلّ الدّروب والأرجاء، وغابت فيها كلّ جلبَة أو ضـوضـاء.. هبّ نسيم عليل معطّر برائحة الجنّة الفيْحـاء، يُلاطف الأعصاب، ويُراقص الأهداب.. وانصرف ككلّ الحاضرين إلى الدّعاء والتّهليل حتّى غاب كلّ واحد عن الآخر.. ولم يَبْق إلاّ رجـعُ الصّـدى..

وفي ركـنٍ قَـصـيّ اختلى الشّاعر المهموم بنفسه الكَلمى على ضفّة النّهر الممتدّ بين الشّعاب، يتأمّل جمال الخلق ويتدبّر في إبداع الخالق ولسانه لا يكفّ عن التّرتيل والتّسبيح:

سُــبّــوح.. سُــبّــوح..

قُــدّوس.. قُـــدّوس..

ربّنـا.. وربّ الملائكــة والــرّوح..

لا إله إلاّ اللّه.. لا نعبد إلاّ إيّاه..

مخلصين له الدّين ولو كره الكافرون..

ظلّ على تلك الحال هزيعا من الليل حتّى افتقدناه جسدًا وصوتًا، وتجلّى كبّة من شعاع نورانيّ.. واسترسل رجْع صدى تراتيله يملأ أرجاء الكون، ويُصدّع آذان الحاضرين بما لا يفقهونه من أنغام تبعث في النفس نشوة، وتوقظ في القلب نبضًا يُعيد إليه ما خِلناه قد افتقدهُ في فيافي الكوْن وأرجاء الوجـود..

حمْلق الحاضرون ناحية النّور الشعشعاني.. ورفعوا أكفّ الضّراعة إلى السّماء يريدون إسْـــراء ومعْـــراجـا يضمن لهم النّجــاة والخلـود..

فجأة دوّى صوْتٌ رهيبٌ اهتزّت له أرجاء الكون، وإذا بذلك النّور السّاطع يتلاشى ويتباعد.. اشرأبّت الأعناق ناحيته، فإذا بشبح بَشرٍ كجلمود صخر.. لا يسمعُ، ولا يعي، ولا يفقهُ ما نقول.. تأمّلناه مليّا، وأمعنّا النّظر في ثنايا وجهه سويّا.. فإذا هو والله ذلك الشّاعر المهموم الذي تاه منذ أمَد في ملكوت الكون بلا بَوْصلة تُوجّهه، أو رفيق يُؤانسه. تاق إلى عالم الخلــود، فألقت به الأيّام في طريق مسدود، من يُحاول فكّ طلاسمها مفقود.. مفقود..

ألححنا في السّـؤال.. فتلعثم، ثمّ قال بصوت متهـدّج:

أنا قلبٌ مُعَـنّـى.. وشاعرٌ مهموم..

أحلّق في الأفق الرّحب.. وبين النّجوم..

أطاردُ نفسا.. آلمتها الكُلوم..

بحثتُ عنها.. في سابع السّماوات..

فأيقنتُ أنّي.. ألاحق سرابًا خلّبا..

في فيافي الأوهام والخيالات..




جوان 2019

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق