أبحث عن موضوع

الجمعة، 5 يوليو 2019

المقامة القصصيّة _ مقالة ...................... بقلم : منير صويدي _ تونس




حدّث حنظلة قال:

ولد الفتى في أسرة عشريّة العدد.. وكان في الترتيب أوسط الذّكور السّبعة ورابع الأبناء العشرة.. لا يذكر من طفولته سوى بعض المحطّات المثيرة بحسنها و قبحها.. بجمالها وبشاعتها.. إلاّ أنّه لم ينس ما حُدّث به عن غضب أمه يوم ولادته لأنّها كانت تنتظر بنتا تسعدها فإذا به "مقروح' (بثلاث نقاط عى القاف) سسيزيدها همّا وشقاء.. وأنّه نشأ وترعرع كسابقيه من إخوته في ذلك الكوخ الملبّس بالطين وسقفه الغريب العجيب بما يجمعه من قشّ وأعواد غليظة تتّكئ متقابلة على قطعة خشببّة طويلة تمتدّ على طول البناية.. يُذكر مرّة أنّ أفعى موحشة تسكن هذا السّقف.. تدلّت ذات يوم محاولة السّقوط مباشرة على رأس أحد النّائمين من الصّبية.. وكانت قاب قوسين أو أدنى من الانقضاض على فريستها لولا ألطاف الله وصيحة فزع أطلقتها الأمّ عندما تفطّنت لهذا المستوطن الغريب دفعته إلى التّراجع والاختفاء.. ودفعت الصّبية إلى الفرار خارج الكوخ لبعض الوقت.. هبّ بعض الجيران لاستطلاع الأمر .. ودون تفكير طويل اتفقوا على الوصفة المألوفة لطرد كلّ شيطان وهامّة.. وكل حيّة سامّة.. فجمعوا ما أمكن من البلاستيك المقوّى والأحذية القديمة وألقوا بها في زمهرير نار حامية تتطاير شظاياها هنا وهناك.. ليعرج دخانها في ثنايا الكوخ.. وتفوح تلك الرّائحة المقرفة في كل مكان.. وليفرّ ذلك الثعبان وغيره من الحشرات السّامّة بلا رجعة..

وماهي إلاّ سويعات حتّى عادت الأمّ وأطفالها إلى موطن الدّفء وكلّهم يقين أنّ المستوطن الغريب قد غادر المكان.. وواصلوا الحياة في الكوخ آمنين مطمئنّين.. وكأنّ شيئا لم يكن..

وإن نسِيَ الفتى فلن يَنسَى .. يوم بلغ سنّ التمدرس وبدأت رحلة تحصيل المعارف والعلوم ..

يوم أيقظوه باكرا ليسافر صحبة الأشقّاء والأتراب إلى المدرسة البعيدة.. التي تستغرق رحلة الوصول إليها أو العودة منها بضع ساعات لمن تأنّى في مشيته.. وساعة ونيفا لمن سارع الخَطو وسابق الرّيح.. وساعة إلاّ بعض الدّقائق لمن امتطى جحشا يافعا.. أو أتانا مدرّبة على الرّكض..

قضى الفتى يومه الأوّل سعيدا بعالم الدّراسة والتّمدرس.. مزبهلاّ لهول البعد.. ومشقّة الطريق.. وكثرة العراقيل.. فهذي كلاب بعض المقيمين على حافة الطريق لا تفوتها شاردة ولا واردة.. وهؤلاء بعض الرّعاة ينظرون إلى العابرين شزرا. وكأنّهم يترصّدون الفرصة المناسبة للانقضاض عليهم.. أمّا حُفر الطريق.. وأحجاره.. وأشواكه التي لا يقدِر الحذاء البلاستيكيّ العجيب الذي تطلّ منه أصابع رجليه وهو يبتسم، على مقاومتها.. فحدّث.. ولا حرج..

تعرّف على معلّمه الذي حدّد له الطاولة التي سيقضي فيها السّاعات الطّوال.. وعلى قاعة الدّرس.. ومكتب المعلّم وخزانته. وبعض المعلّقات التي تزيّن هذه القاعة.. وسمع لأوّل مرّة ما قيل إنّه الجرس وهو يرنّ معلنا بداية كل حصّة ونهايتها.. وعاد في المساء إلى المنزل مهدودا مكدودا يحدوه أمل كبير في النّجاح والتّفوّق..

وبدأت الرّحلة.. رحلة الألف سفرة.. وسفرة..

كان الفتى يافعا.. شغوفا بالعلم والتعلّم وبدأ نبوغه يتجلّى تدريجيّا من خلال ننائجه وملاحظات معلّميه.. وهو المهوس بتجاوز كلّ المحن.. والعراقيل.. فقد تسلّح بالعزيمة والجَلد والبَأس والصّبر لمقارعة الفقر والخصاصة.. وتحقيق المبتغى.. وكان له ذلك بأخفّ الأحزان والآلام لولا أنّ معلّمه قد أربكه يوما.. حين ضربه ضربا مبرحا على قدميه بعصا غليظة كادت تشلّ حركته.. لا لشيء إلاّ لأنّه لم يشتر كتابا.. ولم يحفظ ما طُلب منه... لأنّه لا يستطيع شراءه.. فلا ثمنه متوفّر.. ولا التوجّه إلى مكتبة المدينة ممككن.. فكان.. ما كان.. دون أن يُخبِرَ أحدا حفاظا على مشاعر أبيه.. وخوفا من غضبه..

أمّا المرّة الثّانية فكانت أشدّ وقعا في نفسيّته.. فذات شتاء قارس شعر الفتى بحرج كبير وبرد شديد يلازمه سبّب له مرض الصّقيع فانتفخت أصابعه وتورّمت قدماه خاصّة ما يظهر منها من ذلك الحذاء البلاستيكيّ العجيب.. فأراد بذكائه أن يوفّر لنفسه جوارب يستر بها ما يخجله.. وبمساعدة أمّه الحنون اقتطع كُمّين سوداوين من بعض الملابس القديمة وتفنّن في خياطتهما ليجعل منهما جوربين كان يظنّ أنهما في غاية الجمال.. ارتداهما من الغد وسافر كعادته إلى المدرسة.. فلا يسمع إلاّ صحّة .. صحّة.. فتضاعفت فرحته.. إلاّ أنّ معلّمه كان له رأي آخر.. فقد تفطّن كغيره لما لم يألفه لدى الفتى.. فدعاه إلى الوقوف على المصطبة .. ثمّ طفق يخاطبه بلسان ساخر.. وأسئلة مثيرة للإضحاك.. فقد سأله عن نوع قماش جواربه.. وثمنها.. ومصدرها.. والفتى يجيب بكل تلقائيّة حتى تلعثم.. فضحك الحاضرون كما عنّ لهم.. وحاول المعلّم جاهدا أن يخفّف من وطأة هذا المشهد التراجيدي .. لكنّه لم يُفلح في ذلك.. أمّا هو فاحمرّت وجنتاه.. وأدمعت عيناه .. ثمّ أجهش بالبكاء..

وإن نسِيَ الجميع.. فلن ينسى الفتى رغيف الخبز اليابس.. والأثواب الرثّة.. وبرد الشتاء القارس.. وساعة السّفر اليوميّ إلى المدرسة.. فقد كان ينطلق قبل طلوع فجر ليالي الشتاء الموحشة.. فيتحسّس الطريق بما تعوّد عليه من حفر ونباح كلاب يصحبه معلنا انطلاقه نحو معبد العلوم والمعارف.. ثمّ يكون اللقاء مع الأتراب والزّملاء والأصدقاء قرب نبات الصبّار الذي يوفّر بتشابكه مع سدرة خضراء يانعة مكانا آمنا لزمرة التلاميذ.. هناك.. توقد النار فيادفّأ الجميع ويمرحون .. ويرقصون.. وتتعالى أصواتهم بأهازيج وأغنيات.. وتتناثر الجمرات في كلّ مكان.. ثمّ ما يلبث هرلاء الصّبية المشاغبون أن يتركوا زمهرير النار الملتهبة... ويواصلوا طريقهم إلى المدرسة.. والويل لهم من عَصا معلّمهم إن تأخّروا بعض الوقت عن موعد الدّخول إلى قاعات الدّرس..

ولن ينسى الفتى يوم وصلوا في الوقت المحدّد وانهمكوا مع سيّدهم في حلّ مسألة شائكة.. وفجأة وصل العمّ محمّد على أتانه الشّهباء.. فاهتزّت القلوب.. واشرأبّت الأعناق ناحيته..

ربط دابّته في مربض الحيوانات.. ومشى الهوينى نحو مكتب المدير.. وماهي إلاّ لحظات حتّى أطلّ المدير الذي لا يزور قاعة الدّرس عادة إلاّ بخبر مفزع.. وقف بالباب ونادى بصوته الجهوري الفتى وزمرة من أصدقائه وأبناء "الدوّار".. بتهمة إحراق كوم تبن العم محمّد.. وإزعاج الناس في الهزيع الأخير من الليل بأصوات مفزعة.. وكلام بذيء.. ويا لهول هذه التّهم عند السيّد المدير..

نظر الجميع إلى بعضهم البعض.. ثم خرجوا متثاقلين نحو مكتب المدير.. وبدأ العقاب.. فلا تسمع إلا ضربا.. وركلا.. وسبّا.. وشتما..وصراخا.. وأنينا..

كيف لا.. وهذا المدير بارع جدّا في كسر العظام.. وخدش الوجوه.. ولطم الخدود..

وعند الظهيرة عفا المدير المتغطرس عن أبناء "الدوّار" .. فعادوا أدراجهم بعد أن اعتذروا للعمّ محمّد.. ووعدوه بالكفّ عن هذا السّلوك المشين.. وبسبب تورّم أرجلهم استمرّت رحلة العودة إلى المنازل سويعات حتّى دبّت الحيرة إلى الآباء والأمّهات.. فوجلوا.. وفزعوا.. ثمّ أطلّ الأبطال متعلّلين بأنّ المعلّم احتاج إليهم في ساعتين إضافيتين لشرح بعض المسائل.. لأنّهم لا يتجرّؤون على قول الحقيقة خوفا من غضب الأبوين الذي قد يصل إلى الفصل النّهائيّ عن مقاعد الدّراسة دون شفقة أو مراعاة لقرب موعد امتحان ختم المرحلة الابتدائيّة الذي يأمل الفتى من خلاله أن يحقّق بعضا من مسيرة حلمه الجميل..

وبينما كان حنظلة يروي قصّته تأمّل أحد الحاضرين.. فإذا هو رفيق دربه أيّام الطّفولة.. والشّاهد على ما اضطلع به من أدوار البطولة.. حدّق فيه مليّا ثمّ أنشأ يقول:




مِنْ شُـرْفـة في صَمْتِي..

تطلّ مُنعَـرَجَاتُ الأعْـوَام..

منْ غرفة في بيْـتــي..

أرْسُـم طيْـفًـا من الأحْلام..

مِنْ طاولـة في الرّكــن..

وَقَـلــم بيْـن أنامِلــي..

وقرطاس من الرّؤى والأوهـام..

أخدِش سُـورَ مدينتـي..

أقتحِـمُ بابَها الخلفيّ..

يُبَـاغتُـنِي طفْـل صغِير..

يتأمّلني..

يقبّلني..

يسألني:

ألا يحنّ الصغار.. لاحتضان الدّيار..؟

ألا تحتاج البدور لنور الشّمس.. وضوْء النّهار..؟

ألا يشتهي العاشق عَزْفا على الأوْتار..؟

ألا يشتاق الشّيوخُ لمرَحِ الطّفولة..

وأدوَار البُطـولة..؟




* * *

أنتفض في صمتي..

مِنْ غرْفة في بيْتي..

...

هل سينسى الفتى.؟..

يوم انتفخت يداه..

يوم أدْمَت رجلاه..

بعَصا سيّـــــده..

...

هل سينسى الفتى.؟..

يوم ضاعت ملاليمه..

فبكى خوْفا.. وحسْرة..

وغابت عن القلب ترانيمه..

يوم افتقد خبْـزا.. يسُـدّ به رمَقه..

يوم افتقد طبشورا..

يقيه عقاب مُعلّمه..

...

هل سينسى الفتى.؟..

محفظة ثقيلة.. يحملها على كتفه..

ولباسا رثـّا..

يغطّي بعضا من ثنايا جسده..

وصقيعا قاتلا..

يُجمّده..

يُرعشه..

تصطكّ منه أسنانُـه..

لكنّه لم يقتله..

...

هل سينسى الفتى.؟..

مدرسة بعيدة.. بعيدة..

يسافر إليها كلّ يوم..

زادُه أحلامه.. وكرّاس وقلم..

ورغيف خبز يابس..

ومعاناة.. وألم..

يجوع كلّ حين..

ولـِـــيُبسه ..لا يأكلـــه..

..

وأنتفض في صمتي..

مِنْ غُـرفة في بيْتي..

مِنْ طاولة في الرّكن..

أكتبُ ملحمة طفل..

مَشَـى حافيـا..

على الأشواك والحصى والتّراب..

نامَ خائفـا..

في أرْض قَـفْـر.. ومُـدُنٍ خــراب..




أرْسُمُ عصفُورا..

رفرف بجناحيْه.. وعانق السّحاب..

أنشد في صمته..

ملحمة التّحدّي.. والشّهَامَة والهِمَـم..

أبارك جُهُودَه..

أعانق صُمُودَه ..

وأقبّل القلـــــم..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق