أبحث عن موضوع

السبت، 9 أغسطس 2014

رُفات ................ بقلم الاديبة خديجة السعدي/ العراق




انطلقتْ بنا السيّارة من كربلاء وسط حرارة صيفها الملتهب والفرحُ يغمر الجميع. كانت سيارة صديق العائلة "أبو علي" قد تعرّضت للقصف أثناء الاحتلال الأمريكي لبغداد، لكن محرّكها ما زال جيداً، كما أخبرنا. جوانبها مدعوكة قليلاً وظهرها مكشوف لأن الزجاج الخلفي تهشّم، لكن ذلك لا يهمّ. وقد حصل لنا "أبو علي" في اليوم السابق، وبصعوبة بالغة، على بعض البنزين يكفينا للوصول إلى بغداد.
"كيف ستستقبلني أختي وعائلتها يا ترى؟" أفكر في نفسي. ربع قرن وأنا أعيش في الغربة وهم يعيشون هنا. لم نعد نعرف بعضنا تقريباً، لكن شوقاً جارفاً يغمرني لمعانقتها واحتضانها. أتخيّل الدقائق الأولى التي سننسى فيها كل آلام الفراق والغربة والقهر والحرب والاحتلال، لكن منظر رتل من آليّات عسكريّة أمريكيّة يعيدني إلى الواقع. جنود مدجّجون بالسلاح، مرتزقة من دول مختلفة يدنّسون شوارع بغداد المقدسة. "اللعنة عليكم وعلى من جاء بكم ومن كان سبباً في مجيئكم،" أصيح في خلدي.
"سنختصر الطريق ونسلك الحزام الخارجيّ للمدينة،" يقول أبو مخلد، زوج أختي، وهو يحاول الإسراع بالسيارة القديمة التي لا تطاوعه. "إنّه أسرع طريق للوصول إلى سبع البور."
بعد الخامسة بقليل، وصلنا إلى بيت أختي عالية. يقع البيت على الجانب الأيمن من الشارع، تحفّه أشجار باسقة تضيف على المكان سحراً خاصاً. نزلنا من السيارة وعيون الجميع تراقبني. يمرّ أمام عينيّ شريط سريع لأحداث ماضية ونحن نقترب من باب البيت. لا يمكن اختزال كل ما جرى بكلمات أو مشاعر قليلة. أترنح أمام الباب – أو هكذا يُخيّل لي – ولا ينقذني من نفسي سوى الباب الذي انفتح ليظهر وجه عالية. أترنح مرة أخرى.
بعد العشاء جلسنا جميعاً نتحادث في الظلمة – كانت الكهرباء قد انقطعت. مرّت ساعات المساء دون أن يشعر أحد بالنعاس أو يريد الذهاب للنوم. في صباح اليوم التالي، وبعد تناول الفطور، خرجنا لمشاهدة معالم بغداد المنكوبة ونهرها الحزين. لم أشعر سوى بالألمٍ رغم الحنين. "بغداد تئنّ من جراحها الكثيرة،" كنت أردد لنفسي بين الحين والآخر. الحزن يخيّم على الشوارع والبيوت وآثار الدمار بادية في كلّ زاوية. جوانب الطرقات تعجّ بالآليّات المحروقة والأوساخ. "لكن بغداد لن تيأس،" أعزّي نفسي. " ستنهض ركامها من جديد وستنسج بعناد رداء غدها السعيد."
عدنا إلى كربلاء بعد بضعة أيام. ما زال طريق كربلاء– بغداد يحمل عبق البساتين والأشجار المثمرة – أو هكذا خُيّل لي. ما زال النخيل شاهداً على أحزاننا وجراحنا النازفة. تستقبلنا عند مَدخل مدينة كربلاء أزمة مرورية كبيرة. لم يعد هناك إشارات مرور ولا شرطي مرور ينظّم حركة السير. السيّارات تتحرك في اتجاهات مختلفة وكأنها لعبة سيارات في مدينة الملاهي. "انتظروا قليلاً،" يقول لنا أحد المارة الذين يقفون قرب سيارتنا. "كل الطرق مُغلقة. هناك مظاهرة كبيرة في شارع العباس."
"إنها مظاهرة من نوع غريب،" تشرح أختي. "لا أعتقد أنك شاهدت مناظر كهذه من قبل." يزداد فضولي وإصراري على رؤية التظاهرة: نساء ورجال يحمل كلّ منهم في يده اليمنى كيساً، شُرح لي أنه يحوي عظاماً هي كل ما تبقّى من قتلاهم الذين عُثر عليهم في المقابر الجماعية المنتشرة في أرجاء البلاد. في اليد اليسرى يحملون صورة للشهيد.
انتظرنا حتى مرّتْ المظاهرة. لم نقوّ سوى على الصمت حين وصلنا البيت. بقيت نظرات أمي تحاول أن تقرأ صمتنا وتعابير وجوهنا الحزينة. لم نستطع التحدث عن المظاهرة تلك الليلة، لكننا بقينا لأيام عديدة نتحدّث عن رُفات الشهداء ورُفات البلد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق