أبحث عن موضوع

الجمعة، 22 يوليو 2022

قراءة في قصيدة "جموح" للأديبة الشاعرة سامية خليفة....... بقلم : الشاعر والناقد عادل نايف البعيني - سورية





قد تمرّ على القارئ نصوص عديدة، منها ما يتبخر سريعا ولا يبقى له تأثير، ومنها ما يترك أثراً طفيفا يعلق لفترة من الزمن، ليتوضع في سلة النسيان، وقليلة هي النصوص التي تبقى في الذاكرة طويلا لما تركته من أثرٍ، يظل يحفر له مكاناً في الذاكرة، ليستقر فيها، إلى حين يُستحضر عندما تتوفر المحرضات لذلك.
وربما لأنّ قصيدة "جموح" قد تركت أثراً عميقاً في ذاكرتي ما دفعني لأن أكتب عنها قراءة متواضعةً، ربما تُصيب فتأخذ حقها، أو تخيب فأكون قد تجنّيت عليها. منطلق القول أننا أمام شاعرة منجزة، لها انتاجها المميز واللافت، عملت في مجال القصّ الروائي المشترك، أظهرت فيه براعة في السّرد السّاحر والجذّاب. وكتبت قصيدةَ النثر فأبدعت فيها، وكان لها نتاجها المائز والممتع. ومنها قصيدة "جموح " موضوع القراءة.
"جموح" قصيدةُ العالقين بين حبِّ الوطنِ، والواقعِ الأليمِ الذي يدفعك لأن تهربَ من شقاء ستحياه إن بقيْتَ، وستعاني منه إن رحلتَ. وفي الحالتين ستعيشُ ضياعاً حارقاً.
تتوجه الكاتبة في بداية خطابها للوطن، الوطن الساكن في قلبها و روحها :
" كن منّي قريبا .. اكسرْ جموحَكَ!"
فهي الغيمةُ في سماء الوطن ، غيمة ما حبست غيثَها، ولا جادَتْ به جُزافاً، إلاّ حيث يشدّها الحنين إلى الأرض، لمراتع الطفولة، والصبا والشباب، فتخاطبه خطاب العاتبة:
أنا غيمةٌ في سمائِكَ
ما حَبَسَتْ قطرَها ولا جادَتْ
حيثُما الريحُ شاءتْ..
إنما حيثُ يشدُّها حنينُ الأرضِ
فاطلقْ حنينَكَ.
ولأنها تجود بقطرها لحنين الأرض الذي يشدّها إليه تطلب منه أن يطلق حنينه، لتبقي على صلة به، وتواصل معه، فكيف ستغيثه بدون أن تلقى منه حنينا. ولأنّ الشاعرة الضائعة بين الحنين للأرض، والمنفى الذي اختارته ملاذاً، ترحل إليه مرغمةً، ولكن إلى أين ؟ إلى حيث لا موت، ولا حياة:
"منّي يولدُ الصّقيعُ
سأرحل إلى حيثُ لا هو الموتُ
ولا هي الحياةُ...إلى حيث المنفى"
فالشاعرة المسكونة بحب الأرض وحنينها، لا تجد بغيتها في المنفى وبلاد الهجرة التي فرضتها الأحداث والوجع والاضطهاد، بل في أحضان الأرض التي عليها ترعرعت.
تتابع الشاعرة في طرح معاناتها التي أخذت منها كل مأخذ، فهي كشاعرة كيف تكون؟ وهي تعيش في زمنٍ جارح، حياة تضجّ بالفحيح، كأفاعٍ في دجى الليل، هي صمتُ قبورٍ، مبيتٌ على جوعٍ، أزيزُ رصاصٍ وقتلٍ، واقعٌ أليمٌ لا يُحْسَدُ عليه عدو.
ثم تنتقل الشاعرة لتعرّف بنفسها، وتعرّف بكلّ الذين يعيشون مأساتها من شعبها وشعوب المنطقة، فهي شاعرة المنافي، تتساءل كيف أنطق بلسان المنكوبين، وأنا المتخمة بالتهام الحياة، بينما غيري يموتُ جوعاً، ويتوقُ لسنبلةٍ يفيءُ ظلَّها:
"أنا شاعرة المنافي منّي يولدُ الصقيعُ
قاتلُ الأجنَّةِ في الأرحامِ
كيفَ أنطقُ بلسانِ المنكوبينَ الضائعين؟
وأنا ألتهمُ الحياةَ تخمةً وغيري يموتُ جوعاً
إلى سنبلة يفيء تحت ظلِّها غدُ وليدٍ؟"
بعد كل ذلك تنتقل الشاعرة لمقطع جديد، تنهي فيه قصيدتها، مؤكّدة على أن الوطن صيّرها غيمة جامحةً، تسافر إلى اللامكان، حيث لا موت ولا حياة، لتقرّر مصيرها، وتبرّر أسباب اختيارها الرحيلَ والمنفى، فتصرّح بأنّ الرحيل والضياع، أفضل من عيشة الذل في الوطن، لكنها تتساءل أين المفر ؟ تُخيّر نفسَها .. السفر! أم البقاء! فأيّهما تختار؟ فلا سهيلَ تستدِلُّ به الطريق، ولا دليلَ على دربٍ واضحة في وطن الأنبياء، وهي تعلم جيدا أنّ الرحيلَ هروبٌ، والبقاءَ شقاءٌ:
"لا سهيلَ في السماء.. لا دليلَ
لكنَّما الضياعُ في الرّحيلِ
خيرٌ من مراتعِ الذليلِ
في وطنِ الشّمسِ والأنبياء ،
.....
في السفر هروب
وفي البقاء شقاء"
من خلال ما سبق نجد أنفسنا أما شاعرة مسكونة بحب الوطن، ولكن ليس أي وطن، إنما الوطن الجميل والخالي من الفساد والذلّ والقتل والشقاء. لتقدمَ لنا الكاتبة صورة عميقة عن واقع مُعاش، عاشته وتعيشه معظم بلداننا العربية التي ارتمت في أحضان المجهول من سياسات الغرب التي آلت على نفسها تدمير بنية شعوب المنطقة، وجعلها رهينة لإجرامهم وإرهابهم.
قصيدة إبداعية بامتياز سواء من حيث الموضوع المطروق، أو من حيث الصياغة والعرض والأسلوب. استطاعت الكاتبة أن تغوص في أعماق قصيدة النثر، بلغتها العالية، وبيانها البليغ، متقنة استعمال الصور البيانية المبتكرة التي أضفت على النص جمالية لافتة. بخاصة التشخيص:
"اكسرْ جموحكَ - أطلق حنينك" صور بديعية مغلفة بكنايات ممتعة. ومجازات إبداعية:
" منّي يولد الصقيع، قلوبُنا يطويها الرّدى، وأفواهُنا تلتهمُ الحياةَ."
ولا يفوت الكاتبة أن تربط الماضي بالحاضر تذكيراً بما كنّا، وإلى أين وصلنا:
" في وطنِ الشّمسِ والأنبياء ،
في أرضِ البسوسِ والنّجيعِ"
فعلى الرغم من كون الموضوع يغلب عليه الطابع المادي والمنبرية، استطاعت الكاتبة تليينه وطي معانيه ليتناسب مع سلاسة الشعر، وانسيابية الجملة الشعرية.
أكتفي بهذا القدر من القراءة للنص، راجيا أن أكون قد أوفيته حقه، وأنا الذي لا أعرف المجاملة، حيث حاولت بعد قراءات عدة أن أجد منفذا لنقدٍ سلبي فلم أفلح، فحططت عصا النقد شاكرا للكاتبة إبداعها لهذا النص الجميل.
عادل نايف البعيني
القصيدة
جموح
كنْ منّي قريبًا. .اكسرْ جموحَك
أنا غيمةٌ في سمائِك
ما حبسَتْ قطرَها ولا جادتْ
حيثُما الريحُ شاءتْ..
إنما حيثُ يشدُّها حنينُ الأرضِ
فاطلقْ حنينَكَ.
صيّرتَني غيمةً جامحةً
منّي يولدُ الصّقيعُ
سأرحل إلى حيثُ لا هو الموتُ
ولا هي الحياةُ...إلى حيث المنفى
يقالُ بأنّا شعراءُ
كيف نكونُ ؟ وماذا أكون أنا..
ونحنُ في كَنَفِ الأنا قلوبُنا يطويها الرّدى
وأفواهُنا تلتهمُ الحياةَ..
تضجُّ بالفحيحِ.. كأفاع في أساطيرِ الدّجى
وغيرُنا في صمتِ القبورِ يبيتُ على الطّوى
غيرُنا يمسكُ الرّصاصة
بيدٍ جفَّتْ فيها العروقُ.. يداري منها طفلَهُ
وينأى بلا سبيل..
أنا شاعرة المنافي منّي يولدُ الصقيعُ
قاتلُ الأجنَّةِ في الأرحامِ
كيفَ أنطقُ بلسانِ المنكوبينَ الضائعين؟
وأنا ألتهمُ الحياةَ تخمةً وغيري يموتُ جوعاً
إلى سنبلة يفيء تحت ظلِّها غدُ وليدٍ؟
**
صيّرتَني غيمةً جامحةً
سأرحلُ إلى المنفى حيثُ اللامكان
بين القفرِ والنجوعِ ‏حيث السُّكونُ كالفلاةِ..
لا موتَ و لا حياة ..لا أحدَ يسامر الذّات..
لا سهيلَ في السماء.. لا دليلَ
لكنَّما الضياعُ في الرّحيلِ
خيرٌ من مراتعِ الذليلِ
في وطنِ الشّمسِ والأنبياء ،
في أرضِ البسوسِ والنّجيعِ
وأضاحيَ البشرِ ..
لا نبيَّ في وطنه..
فإلى أين المفر؟
في السفر هروب
وفي البقاء شقاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق