أبحث عن موضوع

السبت، 26 سبتمبر 2020

اَلقنَّاصُ وَالحَجَلُ .................. بقلم : العلمي الدريوش. _ المغرب


    كَانَ قَنَّاصاً مَاهِراً ، لَكِنَّهُ ظَلَّ يُعَانِي عَلَى الدَّوامِ  مِنْ مُشْكِلَةٍ مَصْدَرُهَا قَلْبُهُ وَلَيْسُ عَيْنيْهِ أَوْ يَدَيْهِ. عِنْدَمَا كانَتْ تَطِيرُ أَمامَهُ كُرَاتٌ صَغِيرَةٌ فِي الفَضَاءِ ، كَانَتْ  طَلقَاتُهُ تَتَعَقَّبُهَا وَتُفجِّرُهَا أَمَامَ ذُهُولِ مَنْ كَانُوا يَحُجُّونَ لِلاِسْتِمْتاَعِ بِمُشَاهَدَةِ مُنَافَسَاتِ مُسَابقَةِ الرِّمَايَةِ بِالْبُنْدُقِيَّةِ. يُصَفِّقُ لَهُ الحَاضِرونَ، وَتُقَدَّمُ لَهُ الْجَوائِزُ وَالهَدَايَا الْفَاخِرَة.. فَيَبتَسمُ لَهُمْ فِي تَكَلُّفٍ يُوَارِي بِهِ مَا يُحِسُّهُ مِنْ إِحْبَاطٍ دَاخِلِيٍّ. كَمْ تَمَنَّى لَوْ أَنَّهُ وُلِدَ بِلَا قَلْبٍ ، أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ لَوْ أَعْطَاهُ اللهُ قَلبَ أَسَدٍ.. وَأحْيَاناً أُخْرَى كَانَ يَتمَنَّى لَوْ أَنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ فِي هَذَا الْكَوْنِ حَجَلاً يَطِيرُ أَمَامَهُ.  

   زَارَ طبِيبَ الْقَلْبِ وَطَبِيبَ الْأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ مَرَّاتٍ كَثِيرَة ، وَلَمْ يَفْلَحَا فِي مُعَالجَةِ مُشْكِلتِه. لِمَاذَا فِي كُلِّ الْمُنَافَساتِ لَا يُجَارِيهِ أَحَدٌ، وَعنْدَمَا يخْرُجُ إِلَى الغَابِ لِصَيْدِ الْحَجَلِ تَضِيعُ طَلَقَاتُهُ سُدَى؟! كُلَّمَا طَارَ أَمَامَهُ سِرْبٌ مِنَ  الْحَجَلِ ارْتَعَشَ قَلْبَهُ وَكَأَنَّهُ يَعْدُو فِي صَدْرهِ ، فَيَضْطرُّ إلَى إِغْمَاضِ عَيْنيهِ وَتَرتَجفُ أصَابِعُهُ لِتنْطَلِقَ الطَّلْقَةُ الْعَشْوَاءُ..وَكُلَّمَا بَزَغَ خِنْزِيرٌ يَعدْو فِي الْبَعِيدِ يَتَحَجّر قلبُهُ فَيُرْدِي الخِنزيرَ بِطَلقَةٍ واحِدَةٍ.

  - أَيُّ لَعنَةٍ تُطارِدنِي؟! لَوْ أظْفَرُ مَرَّةً وََاحِدةً بِقَنْصِكِ يَا أُنْثَى الحَجَلِ المُدَلّلَةِ أَمَامَ بُنْدُقِيَّتِي.

  كَلمَاتٌ طَالمَا ردَّدَهَا حَتَّى مَلَّتْهُ وَمَلَّهَا..نَظَرَ إِلَى سَاعَتِهِ لِيَجِدَ الوَقْتَ قَدْ شَرَعَ يَفرُّ مِنهُ عَلَى نَحْوٍ غَريبٍ وَجَسَدُهُ يُنادِيهِ بِالخُلودِ إِلَى الرَّاحَةِ لاِسْتِعَادَةِ شَيْءٍ مُمْكِنٍ مِنْ حَيَوِيَّتِهِ.. تَرَكَ حَقِيبَتَه الصَّغِيرَةَ وَقُبَّعَتَهُ الْجِلْدِيَّةَ الفَاخِرةَ عَلَى الْأرْضِ ، وَاتَّجهَ نَحْوَ سيَّارتِهِ وَاسْتَرخَى..نَامَ كَامِلُ جَسَدِهِ نَوماً عَميقاً وَصَحَا دَاخِلُهُ وَاتَّقَدَ هَوَاجِساً وَأَحلَاماً.. أَطَلَّتْ عَليْهِ مِثْلَما أَطَلَّتْ كُلَّ يَوْمٍ مُنْذُ مَا يُقارِبُ نِصْفَ عُمْرِهِ أَوْ يَزيدُ قَلِيلاً.. نَادَى بِاسْمِها فتَمايَلَتْ أَمَامَهُ نَسيماً.. تحَسَّسَ قَلبَهُ وَمَدَّ نَحوَهَا يَدَيْهِ، فَانْتَفَضَتْ وَفَرَّتْ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ سَمَكَةً لَزِجَةً نُزِعَ الشِّصُّ مِنْ فَمِهَا وَعَادَتْ إِلَى الْماءِ.

   - قُلْتُ لَكَ دَعْنَا أَصْدِقَاء ، مَا أَجْمَلَ أَنْ نَكُونَ أَصَدِقَاء فِي آخرِ الْعُمْرِ. 

  - وَلمَاذَا أَعْدَيْتِ قَلبِي حِينَ قُلْتِ أُحِبُّكَ فَحَلِّق مَعِي بَيْنَ النُّجُومِِ لِلْأَبَدِ؟!

   - أَنْتَ مَنْ تَرَدّدْتَ وَتَأَخَّرْتَ عَلَيّ فِي التَّحْلِيقِ..لَقَدْ أَخْبَرَنِي رِيشُ مَنْ سَبَقْنَنِي أَنْ أَنْدَفِعَ نَحْوَ الْأَعْلَى دُونَ ترَدُّدٍ.. فَطِرْتُ بِسُرعَةٍ مَعَ رِياحِ الْحَياةِ. اَلتَّحْليقُ الْأَوَّلُ يَا صَاحِبِي كَالطَّلْقَةِ الْأوْلَى..نَطيرُ أَوْ نَسْقُطُ، نُطْلِقُ الطَّلقَةَ أَوْ نَرتَجِفُ.. لَمْ يَكُنْ عَليْكَ أَنْ تَرتَجِفَ.. وَ كَانَ عَلَيَّ أََنْ لَا أَسْقُطَ..قَدَرُنَا أَنْ نَكُونَ وَلَوْ فِي آخِرِ العُمْرِ أَصْدِقَاء.

  تَمايَلَ فِي مَقْعَدِ السَّيَّارَةِ فَسَقَطَ رَأْسُهُ بِقُوَّةٍ فَوْقَ الْمِقْوَدِ وَتَرَنَّحَ مُسْتَيْقِظاً مِنْ عَالمِهِ الدّاخِليِّ مَكلْوماً مَلغُوماً. 

 ِ كَمْ لَبثْتُ فِي هَذا الُحُلمِ؟

اَلشَّمسُ تَزَّاوَرَتْ عَنِّي وَأَنَا بِبابِ كَهفِ اللَّيْلِ أَعِيشُ زَمَنَيْنِ بَينَهُما جُرْحٌ لَا يَبْغِيانِ. 

  شحَنَ بندقيتَه بالرَّصاصِ وَتَرجَّلَ مِن سيَّارتِه واتَّجهَ بِحَذَرٍ لِحَملِ حَقيبَتِهِ وبَعضِ لَوَازِمهِ. أَرَادَ أَن يَرْفَعَ قُبَّعَتَهُ الْجِلْدِيَّةَ فَتَسَمَّرَ فِي مَكَانهِ. كَانَتْ أنثَى حَجَلٍ حقيقيَّةٍ داخِل قُبَّعَتِهِ تغُطُّ فِي نَومٍ عَمِيقٍ. تَأمَّلَ أَلْوانَها الزَّاهِيةَ وَالنَّاعِمةَ وَالطَّوْقُ المُزَرْكَشُ يَمْلَأ جِيدَهَا جَمَالاً. مَدَّ يَدَيهِ لِإمْسَاكِها فَفتَحَتْ عَيْنَيهَا الهَادِئتَيْنِ دُونَ مُقَاوَمَةِ تُذكَر، وَكَأنَّهَا عَرُوسٌ اسْتَسْلَمَتْ لَهُ عَنْ طِيبِ خَاطِرٍ وَمَدَّتْ رِجْلَيْهَا المُخَضَّبَتَيْنِ بِحَنَّاءٍ سَاحِرَةٍ. 

  اِلْتقَتْ عَيْنَاهُمَا ، وَخُيِّلَ إِلَيْهِمَا أَنّهُمَا يَعْرِفَانِ بَعْضَيْهِمَا مُنْذُ عُهُودٍ قَدِيمَةٍ .

  _ كَمْ أَطْلَقْتُ خَلْفَكِ مِنْ رَصَاصٍ طَائِشٍ وَلَمْ تَسْقُطِي وَسَقَطَ مِنِّي قَلْبِِي مُرْتَجِفاً؟!

   رَفِيفُكِ الجَمِيلُ ولَعْلَعَةُ الرَّصَاصِ لُغَتَانِ تَرفُضَانِ التَّقاطُعَ فِي قَلْبِي، وَلِذَلِكَ سَيَظَلُّ يَرتَجِفُ.. لِنَكُنْ أَصْدِقَاءَ وَلَوْ بَعدَ كُلِّ هَذَا الرَّصَاصِ الْفَاشِلِ.

   دَارَ حَوْلَ نَفْسِهِ رَاقِصاً  مَرّاتٍ وَأَطْلَقَ ضَحْكَةً خَرَجَتْ مُدَوِّيَّةً مِنْ أَعْمَاقِهِ ، وَحَرَّكَ يَدَهُ الْيُمْنَى وَأَرْسَلَ بِأُنْثَى الْحَجَلِ إِلَى الْأَعْلَى.. رَفْرفَتْ بَعِيداً ثُمَّ عَادَتْ وَحَطَّتْ فَوْقَ كَتِفِهِ.. سَمعَ خَشْخَشَةً بَينَ الأَشْجَار ِالمُتَكَاثفَةِ قُرْبَهُ،  فَتَقَدَّمَ وَأَمْسَكَ جَيِّداً بُنْدقِيَّتَهُ، أَلْقََى بِحَجَرٍ فِي اتِّجَاهِ الصَّوْتِ ، فَانْدَفَعَتِ الْخَنَازِيرُ وَتَعَقَّبَتَهَا طَلَقاتُهُ الْمُمِيتَةُ.. سَقَطَ الْخِنْزِيرُ الْأَوَّلُ فَالثَّانِي.. قبَّلَ بُنْدُقِيَّتَهُ وَصَاحَ بِأََعْلَى صَوْتِهِ : فَلَْتَحْيَا أسْرَابُ الْحَجَلِ الْوَدِيعَةِ يَا فُؤَادِي وَالْمَوْتُ لِلْخَنَازِيرِ الْحَقِيرَةِ.


القنيطرة : 18 شتنبر 2020






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق