أبحث عن موضوع

السبت، 10 ديسمبر 2016

أسمـــاك الزعـيــم ( قصة قصيرة ) .................. بقلم : عادل المعموري // العراق




كنا أكثر من خمسين عاملا.. تنأى بنا المسافات ،والأيام تختار لنا في كل مرة منفى جديدا ،نصل إلى مكان عملنا في السابعة صباحا ،ندخلُ من باب التفتيش ،بعد الفحص والتنقيب في جيوبنا وملابسنا وابراز هوياتنا،يدخلنا الحارس الضخم عبر البوابة ليستلمنا أربعة من العسكريين نسير على طريق مهجوسة.. طريق تزفر خوفا ورعبا ،مشاعر مختلطة تطوقنا ،أسوار ملغومة تذكرنا كي لا ننسَى أن الحياة في هذا المكان تشبه فم ثعبان هائل مستعد لالتهامنا في أية لحظة ،يتم اقتيادنا نحو مكان كبير مخصص لتربية الأسماك ،المكان محاط بالأشجار من كل جانب وعبر ذؤاباتها نلمح الأسلاك الشائكة ونقاط الحراسة المشدّدة ،المكا ن يحوي مجموعة من الأحواض الكبيرة بعضها دائري الشكل والبعض الآخر بشكل مستطيل ،
على كل حوض ثمانية من الحراس.. واجبنا الأساسي هو تقشير البيض المسلوق ورميه إلى الأسماك ..
كل حوض يحوي العشرات من الأسماك الكبيرة ،حالما نرفع أكفنا لنرمي اليها البيضة،تكون فاتحة أشداقها لتلتهمها بأقل من ثانية لتعود من جديد تنظر إلينا ترغب بالمزيد ..كان المخصص من العلب لكل حوض حصة ثلاثة آلا ف بيضة مسلوقة ..الأحواض الخمسة تستهلك في أربع ساعات ،خمسة عشر الفا من البيض ،تلك أوامر الزعيم الكبير..فكنا نؤدي عملنا يوميا دون انقطاع . نعمل
طوال فترة الأسبوع دون استراحة ،نقبض أجورنا أسبوعيا ، نحنُ من مناطق شتى في بغداد.. فينا الكبير وفينا الشاب الفتي اضافة للنساء بكافة الأعمار ،حولنا تتآكل لوحة الألوان نجفل من كل حركة مريبة نحونا ،من سفوح آلامنا نصنع ابتسامات الرضى ،نطبع على وجوهنا الناحلة أحلاما تتناسل في الفراغ .علينا أن نعمل ونحن نصنع السعادة الموهومة
، بعد العاشرة ينتهي عملنا ..يتركوا لنا بعدها مجالا للراحة حتى الساعة الثانية بعد الظهر ليسمحوا لنا بعد ذلك بالخروج بعد التفتيش.. ومن ثم العودة إلى منازلنا ،
الأسماك معظمها استيراد من دول أجنبية والبعض سمك عراقي يتم جلبه من الجنوب ،
وإذا رغب الزعيم بتناول وجبة منها ،يأتي شخص مختص في رفع السمك من الماء وتسجيل العدد ونوع السمكة في ورقة تسلم لرئيس الحراس
،كنت قانعة بأجري لأنني أعيشُ مع ولديَّ الصغيرين فقط ، بقربي كان ثمة رجل عجوز ..عامل جديد لم يمضِ أسبوع على عمله معنا ..كان واجبه أن يقشَّرُ البيض معنا ،رأيت العجوز يختلسُ النظر نحو الحرّاس الذين يحيطون بالحوض ثم ينظر إلينا وثمة خوف يرتسم في عينيه الصغيرتين ،استخرج ببيضتين من الصندوق ووضعهما في جيبه وهو يزرد ريقه بوجل ،لم يلمحه أحد كما ظننتُ أول وهلة ،قلتُ له هامسة :
_ياعَمْ ..أحدهم شاهدكَ وأنتً تدسُّ البيض في جيوبك .
_لم يرني أحد ..صدقيني يا ابنتي أني جائع ..لم اتناول طعام العشاء من ليلة أمس ولم أفطر لحد الآن ..
استمررنا يتقشير البيض وأنا أتوجس خيفة من أحد الحراس في الزاوية القريبة ،كان ينظر إليه والغضب يرتسم في ملامحه و شواربه الكثة تتحرك باستياء واضح ..اقتربتُ من الرجل العجوز وهمستُ له بصوت خفيض:
_الله يحفظك عمّي ..أخرجْ البيض من جيب سترتك ؟!
_قلتُ لكِ أني جائع ..اسكتي أرجوكِ ..كي لا تثيرين انتباههم؟
انتهى وقت عملنا كالعادة الساعة العاشرة صباحا ..قبل أن نتفرق لنجلس على الحشائش الخضراء لنتناول ما جلبناه من بيوتنا من طعام ..ونتنعّم بالمروج الندية المنعشة ،اندفع أحد الحراس نحو الرجل العجوز وأمسك به من ذراعه بقوة ،
نادى على الحراس.. جاؤوه هرولةً ووقفوا أمامه ..أشار نحو الرجل وصاح بصوت عال :
_هذا حرامي ..يسرقُ من طعام الأسماك ويضعها في جيبه ..لم يفه الرجل العجوز وقد شملته رجفه من رأسه حتى قدميه ..دسّ كفه في جيبه وأخرج منه البيضتين ، تناولهما منه أحدهم فيما مدّ كبيرهم ذراعه وصفع العجوز على وجهه..تعثر الرجل بدشداشته وسقط على الأرض ، ثم تقدّم أحدهم ووطأ رأسه ببسطاله الأحمر ..ماذا صنعتَ لنفسك عندما تدلّى الوجع من قبعة االقبطان ومخر عُباب شيبتك ليمزق بسهام حقده ما تبقى من كرامتك ..ماذا تجدي الكلمات وأنت طائر مهيض الجناح.؟. مذ مزقنا ورقة التوت ونحن نعاني من العُري .. نركضُ في كل اتجاه ،بحثا عن فجوة في السماء لنحتمي من الطوفان
_ارحموا شيبتي ..سامحوني يا أولادي ..والله لن أفعلها ثانية .
_أيها الكلب ..كيف تجرؤعلى سرقة طعام أسماك الزعيم ..قالها كبيرهم وأردف :
_اسكت أيها المجرم ... لن يجدي اعتذارك شيئا ...هيا خذوه ؟
لم تنفع توسلاته لهم وأراد تقبيل يد أحدهم ،فنهرهُ بلطمةِِ على وجهه ..
_والله جوعان ياناس. .أستحلفكم بالله أن تغفروا لي ..
اقتادوا الرجل العجوز إلى مكان ما ..ولم نره بعد ذلك ..ولم يجرؤ أي واحد منّا على الدفاع عنه أو التشفع له ..اختفى الرجل العجوز ،وانقطعت أخباره ..كنّا نتمنى أن يكون رهن الحبس أو معتقل في زنزانة انفرادية على أقل الأحوال.. ذهب إلى حيث نعلم .. تلهث خلفه الضغائن من زبانية لا يعرفون الرحمة .
ولكننا كناّ على يقين أنه قد أُعدِم برميهِ في (المثرامة )*ليكون طعماً للأسماك في نهر دجلة .
____________________
المثرامة /آلة ميكانيكية ضخمة لتقطيع الاجساد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق