يقول الاستاذ عبد القاهر الجرجاني في كتابه دلائل الاعجاز ص 207 :
ان الفصاحة تكون بالمعنى وليس للكلمة المفردة كبير قيمة . وكثيرا ما
تستعمل اللفظة في موضع فتكون حلوة الجرس , تستعمل في موضع اخر فتفقد تللك
المزية وانما كان ذلك لان المزية التي من اجلها نصف اللفظ في شاننا هذا
بانه فصيح مزية تحدث بعد ان تكون وتظهر في العلم من بعد ان يدخلها النظم .
في النص الموسوم (( مدينة تتنفس الرماد )) يكاد هذا المنطق متاصلا لان
الشاعر قد استعمل لفظ (التنفس) وما يضاده تماما في الاتجاه اللغوي والمعنوي
لفظ( البارود) اذ ليس من شانية النفس ان يكون بارودا عنوان النص ينذرنا
بان الشاعر سيقهر ثوابت معينة تحت ضغط الحياة
هل هي الحوادث التي اخذت باحاساس الشاعر ام انه يعيش عالم خاص به من الالم ؟؟
هل يتكلم عن عمومية في المجتمع ام انه يشرح ذاته ؟؟
يبتدأ الشاعر نصه الخلاب:
((مدينة الارق اجوب شوارعها المغبرة كساحة اعدام))
الاستسلام لمرارة الواقع والخضوع المتمرد نسبيا هي الصورة التي تتجلى
هاهنا التعبير عن الحياة بمدينة واسناد الارق اليها فمدينة الشاعر التي
يتكلم عنها اي الحياة التي انطوت عنه فهو يراها قطعة من الم من تعب من
اطوار صعبة احالت وجوده فيها الى تفكير دائم مزوج بخطابات التوجع ..
الشوارع مغبرة استعارة مزدوجة الاتجاه تنبئ عن حاجة الشاعر الى افق جديد
افق يفهمه بعيدا عن ثكنات الالم التي طوقت وجوده .. ساحة الاعدام قبل الحدث
وبعد الحدث عبارة عن فراغ لا تسمع فيها الا اصوات الريح تحرك بعض الاشياء
المركونة يدب النشاط فيها حين يكون هناك عقوبة توقعها الدنيا على فرد اما
ظالم او مظلوم ..هذي ساحة الاعدام هي دنيا الشاعر كانما يقول ايها الناس
حاكموني اريد ان اشعر بالحركة بالوجود بالناس فهو لا يرى الا دموع وحدته
ان مطلب الدقة والصرامة الذي طبقه الشاعر في هذا المقطع بالذات فيه مطلب
تكويني يدفع بالتساؤل الفلسفي الى ابعد نقطة لكن بعيدا عن الميتافيزيقيا
فالشاعر اعتمد على مبادئ يقينية لا اختلاف على صحتها .
يسقط الشاعر
معاناته على رفيق .. رفيق معلق في سمائه يراه ويحاوره وهو نفسه لكن يراها
ممزوجة بالسماء لا اقصد الازدواجية لكن الشاعر يفرز لنا صورة ممجنونة عن
الرغبة والهدف فاستخدم القمر كناية عن هذا الواقع الذي يريد ان يعيشه
ويحققه
الارتجال والتوسع على حساب الموضوعات المتاحة ميزة يتتمتع بها
هذا النص المترابط الطرح يتحفنا الشاعر بصورة الصراع بين البرائة والظلام
بين محاولة العطاء وبين الرغبة في قتل الابداع اذ يقول (( انا وقمر كئيب
تلاحقة غيمة سوداء ) ما ابعد الصورة وما اسماها هو الصراع الدائم بين العلم
والجهل (( الغيمة السوداء )) الداء المستفحل كان يكون دكتاتور او حاكم
قاسي او متلون يحاول ايهام الناس ببرائته لكن حقيقته غير او مدعي الدين او
حقود متمرس هذه الامراض الاجتماعية التي تقتل المجتمع تصنع العداوة بين
الناس استطاع الشاعر ان يبرز الاشكاليات القائمة في هذا المجل بادق صورة
وكما يعبرون السهل الممتنع
النص مكثف جدا يختزل الكثير من نقاط الجدل النثري .
كلنا نعلم ان / النص النثري / هو صور متزاحمة تحاول توظيف الشعور في رسم
مجال واحد معبر عن عدة افكار يقول الدكتور (( عمر مهيبل )) في كتابه (( من
النسق الى الذات ))ص 79 :
(( الكتابة التي ينطلق فيها شعاع الوعي من
الذات الى البنية الطبيعية والعكس , اي انها تكون بمثاية عملية اختراق
مزدوجة للبنية وللمخيلة في آن واحد ))
هذا ما يسطع في مفردات الشاعر ((
كرار الجنابي)) .. اذ نسمعه يقول ((و ظلّي المعقوفُ إلىٰ الوراءِ كشجرةٍ
مُعمِّرةٍ لشدةِ دمارِها لا شيءَ سليمٌ كأنّها خَرجتْ توّاً مِنْ وَباءٍ
قاتلٍ أو لعنةٍ رافقتْ أهلَها ))
الابدية الحتمية / الانشطار المتزامن /
للحياة معاني تتوشح لحاظاتها على هذا المقطع .. وجع وطن ربما ..خوف انسان
لم يرتق في مجتمعه الى فرصة اثبات او انه حاول ولم يوفق .تجربة فاشلة ...
يشترك الشاعر في معاناته مع وطنه مع اهله فلا يخرج نفسه من هذا المدار لعله
يرى انه يتميز او ينفرد بشئ خارج نطاق المفروض ..قوله (( كشجرة معمرة))
الخبرة والحكمة واسقاطات العمر .. / كهولة تعبر بالشاعر الى ميادين
المسؤولية / لكن الدمار الذي خلفه الواقع يجعل منها محل انتكاسات .... وتر
مبهم لا يعزفه الا شعور الشاعر واحساسه الدفين هو يشطر نفسه مرة مصلح موجوع
ومرة مهزوم مركون .. افلح الشاعر كثيرا في رسم لوحة الحياة .هذي هي
الواقعية المنشودة في النص النثري لا الابتعاد عن مجال الواقع والزحف الى
افكار لا تخبرك شئ سوى الفاظ تنطق ..
يستمر الشاعر في شحذ همة العقل
والتنظير لمذهب الاختصاص بالمعانات اذ يقول ((حتىٰ غَدتْ يباباً تتصاعدُ
منها ألْسِنةَ اللّهبِ بنايتُها إلىٰ السقوطِ هارعة حينماَ يُسدلُ اللّيلُ
عَباءَتَه نَركضُ ))
يبابا تتصاعد منه السنة اللهب ؟؟؟
بنايتها الى السقوط هارعة ؟؟
حينما يسدل الليل عبائته نركض؟؟
قوارب في بحر هائج ملون باهازيج عبقرية (( الاحتراق )) ليس النهاية بل هو العطاء
السقوط هو البحث عن الراحة بعد رحلة التعب اليومية
الليل مساحة استعادة الانفاس مجال مؤانسة فرصة للتفكير ورسم الغد ... او التفكير به كيف يكون
الملاذ محسب اسمه الانتهاء من يوم الم من رحلة الم من واقع متعب يمنحك الراحة والطمأنينة
لكن الملاذ الذي يعود اليه الشاعر هو نفسه الذي هرب منه ان لم يكن اسوء
..استطاع الشاعر ان يغطي اوجاع امة كاملة وان يفرز قواطع البسمة عن مناهل
الالم ويوظف الاشكلة الصورية في وهج نصه كلم حياته وكلمته ولم يخرج عن
المشهود الى المغامرة او غير الواقعي هذا هو فحوى المقطع الذي يقول فيه :
((نحوَ أكواخِنا المهجورةِ لنُلقيَ بآخرِ آهاتِنا علىٰ فِراشِ الألمِ ننامُ
و الجرذانَ تقرضُ جلودَنا و أوراقَنا الثبوتيةِ))
بين الوطن والمواطن
اخذ وعطاء ثواب وعقاب رحلة يوم تنتهي على نفس السليقة (( اكواخ مهجورة ))
هي الاجساد التي ارهقها وجع الحياة (( اخر آهاتنا )) لهذا اليوم / نمط
متاصل فيه واقع يحكم علينا روتين ممل /
الحديث عن الالام عن التعب عن
مشوار يتكرر / في النص قريحة مجنونة نصبت المعاني على قارعة طريق الفهم
سردا غطى موضوع الحديث بالكامل عندما يقول الشاعر ((ننام والجرذان تقرص
جلودنا واوراقنا الثبوتية )) / الوجود المهدد / الدموع الدائمة / الخوف /
الكيان / عنوان الفرد في الحياة / اسقاطات الواقع المكلوم / شغف بالحزن / .
(( احلامنا المعلقة )) / لن يمر بها النطق لانها مجرد رسم في مخيلتنا
تغطيه تشوهات الزمن / وطن ادمن لغة الحرب / شجون مزدخمة يرميها الشاعر الى
ساحة اذهاننا / .
عندما يتخصص الوطن بسلوكيات الالم والحرب والدماء رغم
تطلعاته للسلام / كحوت يحمل على ضهره حي من الناس / هم مدينون له لانهم
يعيشون على ضهره / وفي نفس الوقت هم يعيشون الخوف كل لحظة ..
في لغة
الشاعر (( كرار الجنابي )) مزيج من فرح مبطن لا يضهر او عجب بالمبادئ التي
يحملها رغم هذا / هو يتطلع الى الانعتاق من هذه المبادئ / لانها لم تحقق
البعد الذي كان يصبو له / ربما خيال الشاعر صاغ عبارة
(( كراهب يحلم
بالمضاجعة)) ليعاتب التربية / اصحاب القرارات / علية القوم / ليقول لهم
لماذا رغم واقعية ما نؤمن به .. الى الان لم يحقق لنا ما جاء به ؟؟
تشخيص خلل ما ينطلق محوره من الوقائع التي انجبته ..
لذا ارى ان الشاعر في المقطع الاخير يوجه رسالة صريحة الى المجتمع / اعادة
النظر بما يسمونه هم ثوابت / اوعلى الاقل ايصالها بصورتها الحقيقة لا
الصورة المشوهه التي وصلت الينا ..
تم ..
مدينةٌ تتنفسُ البارودَ
: ******************** مَدينةُ الأرقِ أجوبُ شوارِعَها المغبرةِ كساحةِ
الإعدامِ أنا و قمرٌ كئيبٌ تُلاحقهُ غمامةٌ سَوداءُ ناقمةٌ و ظلّي المعقوفُ
إلىٰ الوراءِ كشجرةٍ مُعمِّرةٍ لشدةِ دمارِها لا شيءَ سليمٌ كأنّها خَرجتْ
توّاً مِنْ وَباءٍ قاتلٍ أو لعنةٍ رافقتْ أهلَها حتىٰ غَدتْ يباباً
تتصاعدُ منها ألْسِنةَ اللّهبِ بنايتُها إلىٰ السقوطِ هارعة حينماَ يُسدلُ
اللّيلُ عَباءَتَه نَركضُ .. نحوَ أكواخِنا المهجورةِ لنُلقيَ بآخرِ
آهاتِنا علىٰ فِراشِ الألمِ ننامُ و الجرذانَ تقرضُ جلودَنا و أوراقَنا
الثبوتيةِ و ما تبقىٰ من أحلامِنا المعلقةِ علىٰ جدارِ البلدةِ كلوحةٍ
قَديمةٍ تغطيها الأتربة بلدةٌ تتنفسُ البارودَ مَضَغتْ كُلَّ شيءٍ إلّا
شَوكَ الحروبِ رغمَ أنَّ لها شفةً مشقوقةً مِنَ الوسطِ لكنّها أبَتْ إلّا
أنْ تلتهمَ أبناءَها و رَمتْ بالآخرينَ في متاهاتِ الحروبِ دِفاعاً عنْ
عِرضِها و ها نحنُ منذُ بدءِ الرّسالةِ نحلمُ بالسّلامِ كراهبٍ يحلمُ
بالمضاجعةِ ..!