= هل تذكر يا طارق أستاذ التاريخ عندما كنّا بالصّف السادس.
_أستاذ عبدو.. ومن لا يذكره يا صديقي، كرشُه المندلق أمامه كقبة مزار، يكفي وحده ليكون مخزن ذاكرة.
= وهل تتذكّر عندما دخل الصف ذات صباح، وقف ووجهه للوح، ثم دار على عقبيه مثل جرن جابلة اسمنت، ودلق كرشه نحوي، شاخصا إليّ بعينيه المتخاصمتين، وسألني بينما عصاه تهتز بيده كذيل أفعى الكوبرا:
- عصام قفْ.. من فتح الأندلس يا ولد؟
فرقَعَتْ ضحكة الشابين بصالة النادي كصوتِ شلاّلٍ يقبّل صخرَ القاع، ما دفع بأعين الحاضرين أن تشخصَ نحوهما كنوّاسات ذات غسق، أردف طارق وهو يغمز بعينه ويفرقع بإصبعيه:
_ وأتذكّر حينها أنّك من شدّة الخوف، رددتَ بلا وعيٍ: (والله لستُ أنا يا أستاذ، واللهِ لستُ أنا).
= لكن لا تنسَ بأنّ الأستاذ ضربني بسببك علقةً، كادت تدفعني لترك المدرسة حينذاك.
_ كي تتعلّم وتصدّق المثل الذي يقول: (خيراً تعمل شراً تلقى) هل كان ضروريا أن تدافع عنّي وتصرّ على قولك: "حرام يا أستاذ طارق لم يفتح شيئا".
= غريب يومذاك، لقد أغلق على عقلي تماما، ما زال ألم الكف الذي حطّ على وجهي كمطرقةٍ حاضراً حتى الآن، وصوت الأستاذ عبدو يزمجر كـكور الحداد:
- الذي فتح الأندلس طارق يا غبي طارق.. طارق..شووو طارق.. " وكان مع كل طارق يناولني نصيبا من يسراه الممتلئة كخف الجمل، والعصا تتناولني بيمناه على قفاي.
أكمل طارق:
_ وأنت لا تفتأ تردّ عليه وبكاؤك يملأ المكان: (حرام يا أستاذ والله مش طارق، طارق كان طول النهار معي لم يفتحْ شيئا).
= ولهذا السبب طار صواب المعلم أكثر، بل ظنّني أهزأ منه، لم يُشفِ غليله بالكفوف المتلاحقة، والعصي المتقاطرة، بل أكمل تنفيس غضبه. حتى تورّمت أنحاء جسدي.
وانفجرا بالضحك ثانية وعصام يقول:
= بالرّغم من كلّ ذلك لم يخطرْ على بالي ابن الحرام (طارق بن زياد).
جاء النادل بكوبين من الشاي اليمني، وضعهما على الطاولة ومضى، بينما عصام وطارق منشغلان بملاحقة قوام صبية أطلّت عليها، وهي تسير بغنج، وما إن اقتربت من مدّ بصرهما، حتى وثبا نحوها كقطّيْن يتنازعان هرةً فتية، ناداها طارق بعفوية:
_ ياسَمين .. ياسَمين..
اتجه نظر الفتاة لمصدر الصوت، ولكنّها لم تعرهما انتباهاً، وتابعت سيرها حيث جلست على طاولة في الجناح المقابل لهما، مديرة لهما ظهرًا عاجيّا تورّد من قبلات شمس البحر، في حين جلس أمامها شابٌّ، ما لبث عصام أن انتفض قائلا:
= طارق انظر جيّدا أليس هذا خالدًا يجلس على طاولة الفتاة.
حدّق طارق، وأمعن النظر، وبالكاد عرفه، أو خيّل إليه بأنّه عرفه. تغامز الشّابان، واتّجها نحو من ظنّاهما خالدًا وياسمين.
تشاغل الشابّ بالنظرِ خلفه، محاولا استدعاء النادل إليه، وما إن وصل طارق وعصام قربهما حتى هبّ الشابّ والفتاة معا، وانطلقا يضحكان وهما يشيران نحو عصام وطارق.
وكان لقاء العمر غير المتوقّع حتى بالأحلام، زملاء الصف السادس، ومنذ عشرين عامًا التقوا على مقاعد الدراسة بثانوية أحمد مريود، في مدينة القنيطرة وها هم يلتقون اليوم من جديد مصادفة، في هذا المقهى، منهم من غادر الجولان قبل احتلاله، ومنهم من غادره قسرًا، لم يكن أحدٌ يعرف عن الآخر شيئا.
نظر طارق إلى صلعة خالد التي خلت من الشّعر تماماً إلاّ من قدر نصف الكف على جانبي رأسه، وعاد بالذاكرة إلى وعائها ينكش فيها عن واقعةٍ، عندما حمل خالد نشّافة الحبر عن طاولة الصفّ، تقدّم من أستاذ الرياضيات الجالس على كرسيٍّ أمامه بصلعتِهِ النظيفةِ جدّا واللاّمعة، إلاّ من شامة سوداء توضغت في منتصفها، قائلا له: ( عفوا أستاذ على صلعتك نقطة حبر ممكن نشّفها). وانطلقت ضوضاء الصف مع قهقهة التلاميذ وصفعات الأستاذ على الوجه الطفولي.
لمعتِ القصّة كومضة في ذاكرة طارق فتقدّم من خالد وبيده منديلٌ ورقيٌّ، قائلاً وهو يلوّن وجهه بابتسامة:
- عفوًا أستاذ خالد على صلعتك نقطة حبر ممكن نشّفها.
وانفجر المكان ضاحكا فملأ الأرجاء مرحا، بينما راح عصام يردّد بصوت تقطعه شهقات الضحك المتواصل: .... نقطة حبر..آ.. آ..نعم نعم يااااا لها من ذكرى يا خالد.