ظهرت في الآونة الأخيرة جماعة من كتاب القصة القصيرة حاولوا التأسيس لجنس قصصي جديد ، أطلقوا عليه ( ق.ق.ج) أو القصة القصيرة جداً ، وشرعوا في إقامة الملتقيات و المهرجانات السنوية التي يشارك فيها العشرات من الأسماء التي ركبت موجة ( التجديد ) ، مستسهلة كتابة هذا الشكل القصصي ، بلا أي وعي منها بشروط كتابته ، ودون امتلاكها بقدرٍ كاف لأدواتها الفنية ، وبسبب اعتمادها الوحيد على هيكلية الشكل القصير ، ظهرت نماذج كتابية ساذجة ، لا علاقة لها بفن القصة القصيرة لا من قريب ولا من بعيد ، وساهم تكاثر كتاب هذا الشكل التعبيري في حدوث لغط وتشويش كبيرين في الساحة الأدبية التي كانت ولا زالت تعاني أصلاً من تداخل المفاهيم ، وضبابية المعايير، ولعل من أهم الأسئلة التي من حق القارئ ان يطرحه هو:
ما هو الفرق بين ( ق.ق.ج ) وبين القصيدة الومضة ولا سيما الومضة النثرية التي تتخلى عن الإيقاع الذي يفصل الشعر عن النثر عادةً ؟؟
وهو سؤال مشروع ولا شك..
وقبل الإجابة عليه ، لا بد من الاعتراف بأن النماذج الجيدة من ق.ق.ج تكاد تكون ومضات نثرية ، أي أنها أقرب للشعر منها للقص ، ولهذا الرأي مبرراته الموضوعية التي أرى من الضرورة بمكان عرضها ولو بإيجاز:
القصة في جذرها اللغوي هي الإخبار أو السرد ، وهي بهذا :
ـ غير ملزمة بالجنوح إلى الشعرية إلا لضرورة داخلية ( اي تستوجبها بنية الحدث النصي السياقية ).
ـ تستلزم وجود حدث ، وشخصية ، في ظرف زمكاني.
ـ السرد هو أساسها اللغوي ومحورها المركزي .
أما اللغة الشعرية فمختلفة الأدوات ، يكون فيها السرد مهمشاً ، فمركبات بنيتها الفنية تستنطق اللحظات الشعورية عبر نسق لغوي قادر على توليد (حقول دلالية ) تتسع باستمرار، وإذا كان التداخل بين الأجناس الأدبية في وقتنا الراهن أمراً مفروغاً منه ولا يمكن إغفاله ، فإن النماذج الجيدة من ق.ق.ج المعتمدة على الانزياحات الشعرية ، ليست في النهاية سوى ومضات نثرية ، وإن أصر أصحابها على إطلاق اسم قصة قصيرة جداً على منتجهم ، منساقين وراء هاجس الريادة والابتكار، ولو استشهدنا ببعض النماذج الجيدة (وهي جدُّ قليلة ) من ق.ق.ج لاتضح جلياً مدى اعتماد هذه القصة على :
ـ فكرة مكتملة
ـ بداية ونهاية واضحتين
ـ غالباً ما تنأى اشاراتها عن الخصوبة الدلالية لحساب احادية المعنى/ المقولة الواحدة فلونقرأ للقاص "أسامة الحويج العمر" قصته القصيرة جدا بعنوان "برج بيزا" :
(( نظر برج بيزا إلى ما حوله بحيرة،وقال: منذ مئات السنين وكل شيء من حولي مائل!
إلى متى يستمر هذا الوضع الشاذ؟؟ ))
سنلاحظ اعتماد هذه القصة على تقديم الفكرة بمباشرة لا لبس فيها ، ولا نلمس فيها أية خصيصة من خصائص اللغة الشعرية حيث لا اشتغال فني دلالي ، ولا أية علاقة توترية بين مفرداتها المتجاورة في سيرورة باتجاه واحد، دون حاجة لاحالات خارجية لتحديد معانيها ، ولا تؤدي العلائق السردية أي دور إضافي للمعنى الأحادي للمفردة.
ولنقارن ما قرأناه مع ومضة نثرية للشاعر السوري "علي سفر" بعنوان " القليل " :
(( وبعد قليل من سيفقد قليله
كيما يغرف مما مضى بعضاً مما فقد ؟؟ ))
فالمعنى هنا غير محدد ، والمفردات لا تلتزم بالدلالة القاموسية لها ، وذلك بسبب العلاقات المتوترة القائمة على الانزياح ، أخرجت المفردات عن مألوفية المعاني ، الى طبقية الدلالة ّ، اي تعدديتها ، وهذا ما تعجز عنه ما تسمى بالقصة القصيرة جداً.
هذا اضافة الى تقنية " التكثيف" فال( ق ق ج) تعتمد في مشروعها المقترح على ألآلية الشكلية ( الِقصَر ) فقط ، وهذا القصر يكون كمياً ، يطال عدد المفردات أو الأسطر التي تتألف منها القصة ، وهي آلية تختلف تماماً في اسلوبية القصيدة الومضة ، حيث
ان للتكثيف دوراً أكثر عمقاً ، ويتجاوز كونه تقليلاً للمفردات إلى خلق حالة من التوتر الذي يكثف المعنى ضمن بنية شكلية موجزة وقادرة على الإشعاع الدلالي فيما بعد ،
فثمة فارق كبير بين التكثيف الخارجي الساذج الذي لا يعدو كونه غطاء هشاً في حالة ال ق.ق.ج ، وبين التكثيف الهادف إلى توسيع الفضاء الدلالي للجملة الشعرية .
بعبارة أخرى لا بد أن نرجع إلى الوظيفتين الرئيسيتين للغة :
ـ الوظيفة الشعرية
ـ الوظيفة النثرية
والمقارنة تعقد هنا بين منجز ادبي هي القصيدة الومضة ، وبين نموذج غير مكتمل الإنجاز هو القصة القصيرة جداً
وهذا ما تعززه قرأءتنا نموذجاً اخراً من ال (ق.ق.ج) للقاصة "وفاء خرما" :
(( استهلت أمّ أجنبية رسالتها إلى ابنتها البعيدة بقولها :
إلى حبيبتي بعد بيبي ، وبيبي هو كلبها..!!!!! ))
بعد ان نضع قبالتها ومضة نثرية للشاعرة السورية "نضال نجار" :
(( عطرك يكفي.
ليوقظ من آخر الكون
غيبوبة حواسي ))
ولنقارن بين الوظيفة الشعرية للغة عند نضال نجار، وبين السرد المباشر التقريري (الوظيفة النثرية ) للغة وفاء خرما ،
ولا بد من التنويه هنا أن القصر الشديد في حد ذاته لا يمكن أن يخلق جنساً أدبياً،وكلمة(جداً)التي ألصقت بالقصة القصيرة وجدت لاستيعاب الكم الهائل من أنصاف وأرباع الكتاب الذين لم يجدوا وسيلة للدخول إلى عالم الأدب غير المراهنة على هذا المنتج،والدليل أن أغلب كتاب الـ ق.ق.ج لم ينتجوا بعد الملتقيات شيئاً ذا أهمية تذكر.
سؤال أخير يفرض نفسه هنا:
لمن يسمح بالتجريب؟؟
أعتقد أن من يجرب في أي جنس أدبي عليه أن يتمتع بتجربة متكاملة وغنية،تخولّه تجاوز المرحلة الإبداعية ، إلى آفاق التجديد ، وهذا ما حدث في حالة أدونيس مثلاً ، وتجربته الشعرية الغنية التي لم تنفصل عن حقيقة امتلاك الشاعر لرؤيا فلسفية متكاملة،مكّنته من التجريب في نموذج القصيدة الومضة بنماذج متألقة تسجل له.