أخيراً حسم
أمره، وألقى كل الأعباء جانباً، وجاء إلى بلده. في آخر بيت من بيوت هذه
المنطقة القديمة ؛ مدرسته. أمضى فيها أربع سنوات مرحلة الدراسة الإعدادية
بعد الدراسة الابتدائية والمتوسطة. ذلك الشاب القادم من مدينة بعيدة نائية
في بلاد الغرب، عاد لبلده "العاصمة بغداد" ليبحث فيها عن حياة جديدة. شمّر
عن ساعديه، وأعلن استعداده لخوض معركة البقاء، بدأ يبحث عن فرصة للعمل بعد
حصوله على شهادة الدكتوراه في الهندسة المدنية. بدا له الزمن المتسارع
وسط احتياجات وواجباتٍ لا تكفّ عن الإلحاح.. بعيداً، غارقاً وراء ضباب
كثيف معبأ بأحداث تراكمت بشكل مدهش، تناثرت في أتونها الصاخب ذكريات أخرى
تمسّ الروح، وكادت لولا الإرث الثقافي العاطفي النابض فيه أن تتلاشى. لكنه
رغم ذلك وكلما حاول أن يقصد هنا، لا يعرف كيف تتشتت إرادته وسط مشاغل أخرى،
والأيام تكرّ كحبات سبّحة بين يدي ناسك، لتتراكم على غير وعي منه إلى عشر
سنين. الآن لم يجد غير وظيفة عادية كعامل في مكتب للعقارات تلاشت كل أحلامه
للعمل باختصاصه الدقيق. يومذاك قال له مسؤول العلاقات العامة في الجامعة
التي كان يدرس فيها في السويد عبر حديث عابر:- عند تخرّجك تنتظرك فرص عمل
كثيرة في مؤسساتنا، جنسية، وبيت، وسيارة، وراتب محترم.!! وقبل أن يفكر
بترتيب إجابة لبقة، قال له:
ـ بل سأعود إلى بلدي فهي تحتاجني أكثر.!!
بعد أيام جاء قرار ترحيله من السويد على أنه شخص غير مرغوب فيه، والاشتباه
بأن له نشاطات قد تمسّ أمن الدولة. حاور نفسه قائلا: لماذا تُصارعني
المقادير.؟ لماذا؟! عشر سنين لم آت إلى هذا المكان الذي شدّني ويشدّني
بتفاصيله الحميمة، وكومة من الذكريات لا تنسى كلما أخذني الوقت لأستعرض
شريط الماضي. مدرستي الثانوية كانت في هذه العاصمة أيضاً، ولكن في منطقة
بعيدة عن هذا الحي، ودراستي في الجامعة لم تكن توفر لي وقتاً لزيارة هذا
المكان، وعندما تخرّجت سافرت إلى السويد لأكمل اختصاصي. أغمض عينيّ، أغوص
في كومات الضباب التي ما انفكت تتودع بيني وبين الإمساك بالتفاصيل الصغيرة
الحميمة التي كثيراً ما عبّرت عن انشدادي إلى المكان هذا وما فيه، ومن فيه.
في آخر بيت من بيوت هذه المدينة الضيقة، كانت مدرستي.!! عندما عزمت
اكتشافها من جديد، لأتحسّس ذكرياتي الغابرات فيها، عدت أدراجي، أفتقد وسط
هذا الصمت المطبق - إلا من روائح مطابخ الجيران - صخب التلاميذ ساعة
الانصراف. أغرز وجهي على أرض المدينة الضيقة المرصوفة بحجارة سوداء
مستطيلة. قطّة تبحث عن قوت يومها في كيس مليء بالفضلات. الأبواب الخشبية
المنخفضة تحت قناطر حجرية ما زالت كما عرفتها منذ عشر سنين تنبض بالحياة.
يظللني عناق الشرفات والنوافذ مع مثيلاتها من بيوت الضفّة المقابلة. أسمع
أنين خطواتي تلاحقها أنفاسي الحائرة، تاركاً ورائي بيتاً من تلك البيوت
البغدادية القديمة. مدرستي.! الحي الذي أقطنه فسحة سماوية بوسطها بركة ماء
فارغة، صيّرتها الحاجة وضيق المكان منصّة للخطابة، نتحلّق حولها في كل صباح
نؤدي تحية العَلَم ونردّد النشيد. ما زال كل شيء كما هو موشوماً في ذاكرتي
منذ أكثر من عشر سنين. في آخر هذه الطريق، وعلى ناصية السوق الشعبي المكتظ
بالناس، يقوم المطعم الشعبي لصاحبه ابو مصطفى. وحكايات لا تنسى. تسمّرت في
مكاني مشدوهاً.. بدا لي وجه السويدي مسؤول العلاقات العامة أحمرَ.. يعلك
بين شفتيه كلمة مقيتة، ألقتني أنا الغريب بعيداً عن "عالم ليس لي"، تصوّرته
يحقق لي طموحي وأمنياتي. أشرت إلى أول سيارة أجرة عابرة، مغادراً - دون
أسف- المكان الذي أحببته أكثر من أيّ شيء.!