هناك حين يحِلّ الرّبيع في كلّ موسم ترحلُ بنا يا أبي الى الغابة، كنّا نرتع مثل عصفورات بين الأشجار والأعشاب وكانت أمّي تخاف علينا من لدغات العقارب فنرفض العودة فيصرخ صوتكَ الجهوريّ بنوع من الحدّة :عدن إلى هنا، هيّا.. فنأتي بلمح البصر…
كنتَ لا تُكثر الكلام معنا وكنّا لا نرفض لكَ طلبا..
هناك بالسّوق كنتَ تحمّلنا أوزار احتياجات الدّار فنروح ونجيء مرّات ومرّات دون نصَب..
وهناك بساحة الحيّ كنّا نمرح مع الأطفال حتّى إذا ما رأيناكَ فررْنا إلى الدّاخل مخافة أن تضربنا..
وهناكَ أمام المعهد الثّانوي تتجلّى أجمل الذّكريات وقد كنتُ البنتُ الأولى في ذلك الوقت من تجاوزتْ مرحلة التعليم الإبتدائي الى الثّانوي..
هناك كان أبي يقول لي: كوني شريفة في كلّ الأشياء..
هناك كان يراقبني…
مع من أمشي؟
من هي صديقتي؟
ابنة من؟
من ذاك الذي بجانبكِ؟
لماذا تلتفتين وراءكِ؟
من يشغلكِ؟
لماذا تأخّرتِ؟
متى موعد الدّراسة اليوم؟
كم فتاة تقرأ معكِ في القسمِ؟
مع من تجلسين فتاة أم ولد؟
لا تمارسي الرّياضة بلباس رياضيّ مكشوف..
لا تذهبين الى الأندية عشيّة كلّ جمعة..
لا تشاركين في نادي الموسيقى ولا الرّسم..
كلّ هذه الأشياء مرفوضة أفهمتِ؟
وهناكَ شاركتُ في نادي الرّسم..
وهناك شاركتُ في نادي الموسيقى..
وهناكَ شاركتُ في نادي التّطريز والخياطة..
وهناك شاركتُ في الجمعيّة الرياضيّة لكرة اليد وكنت حارستها..
وهناك شاركتُ في احدى الرّحلات التي نظّمها المعهد دون علمكَ ونلْت نصيبي من الضّرب حين كشفتَ أمري فكانت هي الرّحلة الأولى والأخيرة في نفس الوقت..
وهناك.. وهناك..
فهل كنتُ قد تحيّلتُ عليكَ أم أنّه الطّموح الذي يحمِلني في مجتمع لا يعطي الأنثى حقوقها…
وهناك بم أنّ أمّي لم تنجب الذّكر فقد تجرّعتُ مرارة الإحتقار وأختاي…
وهناك كان لا بدّ أن أنتصر على العادات البالية…
وهناك نشأتْ هوايتي الأدبيّة وترعرعتُ منذ طفولتي كاتبة عصاميّة التّكوين..
وهناك وحدي سِرِتُ عبر طريق الكِتابة الشّائك دون دِراية كبِيرة عدى الإحساس والموْهبة التي اكتسبتها منك يا أبي..
وهناكَ افتككْتُ رغم الصّعوبات بعض حريّتي..
وهناك كان الفضل لكَ أيّها الغالي وإنّني ممتنّة لحرصكِ على قبول تعليمي رغم أنف القبيلة وكان التّوفيق في حياتي يعود للّه أوّلا ولكَ ثانيا…
خربشاتي تترجم كلّها عن حالات مجتمع قاس لا يعرف قيمة البنت..
خربشاتي ردّ فعل عن احتقار الأنثى..
خربشاتي دفاعا عن أمّ لم تنل حظّها بسبب عدم انجابها للذّكر..
خربشاتي أسمو بها عن كلّ ما هو تهوّر..
خربشاتي متنفّسي..
روحي..
طريقي المعبّد إلى بلوغ مآربي..
هناك.. بسفح الجبل حيث يوجد منزلنا كنتُ أحضر دروسي..
أحمل قلمي لأعبّر بفكري الصّغير عن قساوة النّاس والحياة..
أترجمُ عن مشاعري البريئة..
هناك كانت خفقات صادقة طرقتْ أبواب قلبي سرعان ما انطفأت وانطفأت معها أولى شمعات الحبّ بسبب الخوف..
كم كنّا نخاف من المجتمعات، وكم كنّا نخاف من أنفسنا وضميرنا برغم صغره فهو يوبّخنا، وما أجمل الحبّ في عهد الطفولة..
هناك وبذاكَ المنزل الأنثويّ ترعرعنا وقد ربّيتَنا يا أبي بنوع من الصّعوبة لكنّها هيّأتنا لتجاوز الحياة بنجاح، ومن ثمّ ربّينا أولادنا لنهيّأهم الى طريق النّجاح بدوْرنا…
هناك تعلّمنا أنّ اللّين وحده لا يوصل الى القمّة ولكنّ الصّرامة معه توصل اليها..
هناك يا أبي طفولتي..
هناك روحي تسبح في تلك الأركان الأربعة من البيت..
هناك وجه أمّي الملائكي ويا لجمال روحكِ أمّاه..
هناك ذكرياتي..
مرحي..
لهوي..
صدقي..
عفويّتي..
مغامراتي..
شيْطنتي..
صعوبتي..
سذاجتي..
بساطتي..
صرامتي..
تلقائيّتي..
سرعة غضبي..
سرعة رضاي..
سرعة يأسي..
عودة أملي..
وهناك أخيرا ودّعتَ..
رحلتَ بدون رجعة..
وهناك ودّعتُكَ..
والآن أنا وحيدة بدون أمّي..
بدونكَ..
بدون روحي..
بعض كلمات راقت لي في عيد الآباء..
ولكنّك أبي عيد على الدّوام..
عيد على مرّ الزّمان..
ولن تموت..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق