الشعر في العراق قديم قدم حضاراته العريقة , تتوارثه الأجيال حتى يكون جزء لا يتجزأ من دلالاتها الحية , وفي كل وقت و زمان هناك نجوم تتلألأ على ارض هذا الوطن .
ومن بين هذه النجوم أخترت ثلاثة منها ,
الشاعر ( / بُراق داود عباس ( براق الجنابي ) من مواليد بغداد /1979 , وقصيدته بعنوان ( شَرقي الولادة ) .
الشاعر / فراس جمعه العمشاني , مواليد البصرة/ 1977 و قصيدته ( عهد الوصال ) .
وأخيرا الشاعر / نبيل طالب علي الشرع ( نبيل الشرع ) , مواليد ميسان/١٩٧٨ , وقصيدته ( سَأسيرُ دَربي رغبة لقاء ... رغم الدموع )
لنتذوق جمالية النص الشعري الذي ينبع من كتاباتهم و الإحساس المرهف الذي صاغة قصائدهم , بكلمات واقعها حلم يرفرف بجناح الابداع ليحلق في سماء الخيال .
يبتدأ الشاعر/ براق الجنابي , قصيدته ( شرقي الولادة ) ...
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
( وُلادَتي هُنالِك ..
حَيثُ ولادَةُ الشَّمس .. !!
هُنالِك ..
حَيثُ أسيرُ بِلجامٍ وسَوط ..
أحلامي .. لا تتَعدّى رأسي
خُطواتي .. تَنتَعِلُ التَّيه
وتسيرُ بلا ظِل ..
يبدأ الخيال حيث ينتهي الواقع , هكذا بدأ شاعرنا/براق الجنابي قصيدته , فتحدث عن الولادة وحدد مكانها ومن ثم سمتها , أنها شرقية سمراء اللون حيث شروق الشمس , كانه يربط سحر هذا الشروق مع موقعه الشرقي الصعب و الجميل , المؤلم و المريح , حيث يساق بالقوة نحو مصيره المحتوم رغم الاحلام , وكانه يشير الى عذابات الشرق المكبوتة منذ الاف السنين .
و التيه الذي يلازم اضطرابه المعلن , بعد غياب البصيرة و رحيل النور , فيجعله كانه مصيرا للشرق او طبع تطبع به .
ثم ينطلق مره أخرى و ببساطة الأسلوب و بعمق المعنى ليكمل الصورة التي بدأها اول مره ( أحتَسي على أطلالِ القَفر
كؤوسَ المَاضي التَّليد .. !!
فأثمَل ..
أتَرَنّح ..
ثُمَّ أبني صُروحاً
مِن دُخانِ سِكارَتي .. !!
هُنالِك ..
هنا يربط الشاعر/براق الجنابي , بأسلوب رائع ضياع الشرقي في حاضره بسبب أحلامه في الماضي البعيد , وكيف انه يثمل و يترنح , وهو يبني الصروح في الوهم بعد ان أضاع المستقبل بسببه , فجعل من دخان سيكارته إشارة الى نار الكارثة التي تحيط به .
وكنساج بارع يكمل نسيجة ببراعة ( ألزَموني بِسنٌارَةٍ حَمقاء
ومُستَنقَعٍ نَتن ... !!!!!
يا إلهي ..
صَبري أخَذَ شَهقَةَ يَأس
واتَّكأت على رِئَتَيه
وتَرفُضُ الخُروج ......
وهو الان يعلن احتجاجه على حاله , ومحاولته ان يستيقظ من هذا الكابوس , الذي اخذ منه مأخذ كبير , فبدأ الصبر بالاحتضار .
لقد استطاع الشاعر/براق الجنابي , ان يعلن عن نفسه وعن اسلوبه بصياغة جميلة بسيطة وعميق و صورة شعرية متمكنة من اسلوبها ومحتواها .
الشاعر / فراس جمعه العمشاني و قصيدته ( عهد الوصال ) .
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
يبدأ الشاعر / فراس قصيدته (
أجنحة ترتدي ثوب هجرةٍ
تتعكز
بين أودية الجمر
تساورها
منحوتات أغنيتي
مبللة بلحنِ طفولةٍ
أبادتها شمس الاغتراب
ما لبث حلمي
ان يطول
اثقلتني هواجس السفر
آثارَ ليلي والنهار
يا له من أثرٍ
أُثكل عَيْنَيْ
تَرَمّلَ القلب فَقْد القرين
بلا قِران
في صياغة لغوية جميلة و صورة شعرية عميقة المعنى يبدأ الشاعر قصيدته , بهذه الكلمات العذبة التي جعلت للخيال اجنحة يطير بها الى حيث مكنون القصد ليترسخ في ذهن القارئ و تطبع في ذاكرته , فرمز لها بالهجرة .
( الوقت حاصرني
ألقى حباله
على معاصم ساعدي
ما عدت أقوى
على حمل جثماني
بلا ذراع
بلا يدين
قتلني زيفها
كأسُ الزيف وحش قاتل
لم يغادر أوعيتي )
يصل الشاعر في هذه الكلمات الى الذروة والغوص العميق بلغة شعرية عالية , فرسم من خلالها ملامح النصوص بطريقة فسيفسائية جميلة .
ثم يكمل ( لطالما ظمئِت
تجرّعَني بمخالبهِ الحادهِ
أرقدني دكة المغتسل
الأخير
المقصلة تتوارى للأحلام
تذبح الطير في الرحم
مسامير الصليب
تتباكى جسداً ميت
منذ الف عام )
لقد وصلنا الى حيث الخط الأخير الذي رسمه الشاعر/ فراس جمعه للصورة , التي ابدع فيها بأسلوبه الجميل المتمكن , مسوقا لنفسه في ذهن القارئ , بعد ان نقش اسمه في مخيلته العتيدة .
الشاعر/ نبيل طالب علي الشرع ( نبيل الشرع ) وقصيدته ( سَأسيرُ دَربي رغبة لقاء ... رغم الدموع ) ...
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
أَنا بَقايا تُرابٍ مَحمُوم
بِرَهبةِ الوَحدةِ المَجنُونة
أَحلاميَ تَتَكئ عَلى شُرفةِ الدَمعةُ الهائِمة
في دِيوانِ قصيدَتي
عَجزتُ عنِ الضهورِ مُبتسما
مَديِنتي بلا حَنينٍ تَركعُ فيها
خَبلاتِ الخَيال
دَربيَ مَسحورٌ النَوايا
مَركونٌ أَنا عائمٌ شبحِ السُبات
يَشدني البَديع رُتوشُ عَزفُها
شُخوصٌ لا تَستَجيبُ ولا تَشفي السُقم )
ان الاجناس الأدبية ليست اشكالا جمالية فحسب بل هي أيضا اشكال عميقة في الدلالة و المضمون بمواضيعها و صورها , فهي تجمع بين الفن و الحبكة من خلال ما طرحه الشاعر .
من خلال هذا البوح لمشاعر و احاسيس عاشها أراد ان يعبر عنها , ويطرحها على مسامع القارئ .
فتكلم عن الوحدة , كأنها الذات المعبرة عن قصيدته وجعل منها مدينة لهواجسه و إرهاصاته .
( مَجبورُ العَويلُ تَحتَ النصال رِقابُ حَرفي
أَينَ الغِياثُ العَليل ؟؟؟؟
رَقصةُ الشَوادرُ بينَ كَفي بينَ قَلبي
تُحرقُ البَقيةُ الباقيةُ ...من رُكامِ زَمَني .
بعدَ العُدولُ عن عُبورِ مَحطَتي أَسَتَيقظ
الرَسمُ مريضاً أَرداهُ شَغفُ آهاتي
حتى جائت قَصيِدةُ الهَوسُ خائِفة .
أَيَ بابٍ بَعدكِ أُطرُق؟؟؟.
وتَرانيمكُ الغائبةُ هي الوَسيِط ؟؟؟
ساحةُ الليلِ يَستفيقُ بِها الأَنين
سَأسيرُ عُمريَ رَغبةَ لِقاءٍ رَغمَ الدموع )
( أين الغياث العليل ؟! ) انها الصرخة التي يطلقها من خلال كلماته , في سؤال مشترك في اذهان الجميع , لا يخرج عن كونه من مدلولات هذا الابداع , فجعل نهاية القصيدة استفسار مؤجل لبدايتها .
لقد استطاع الشاعر / نبيل الشرع , ان يضع لاسمه مكان بين الشعراء الشباب الواعدين , وكان موفقا في ذلك .
2016/6/10
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق