للمال لغة لا يعرفها غير الذي امتلكهُ ،هي لا تعتمد الايحاءات ولا التشبيهات ،تختزل المفردات بشدة، تجمع الاضداد والخصماء ،لا تحتاج الى معاجم للترجمات .المجتمعون على المال لا يسألون عن خلق الآخر او نسبهُ فلا مبادئ وفلسفتهم كم معك ولا يهمني من تكون بقدر ما تملك .
قيل َ قديما ان ابن الدنيا يبحث عن المال والسلطة والنساء وحين توفرها له فكأنما اقبلت عليه الدنيا بكل غرورها ومحاسنها الخداعة فتراهُ مسرفا في ملذاتها ولا يسمع نصح المتقولين المتفلسفين والمفلسين ومن جاءهُ محتاجاً صديقاً ام قريباً يرجعهُ خائباً بابتسامة صفراء لكي يقطع الطريق على الاخرين من امثالهِ.
المتنفذون هنا من كافة الاطياف ،السياسيون ،التجار ،السراق ،رجال الامن والمخابرات ،المزورون ومرتدو لباس التقوى .
المنزل كبير لكنهُ ليس بحاجة الى سماسرة يقفون على ابوابهِ للترويج لثقافة العهر والدعارة لمواخير اتخذت من القصور منازلاً، تفتح الأبواب المغلقة على انغام منبهات السيارات الفارهة وقد تعودت عليها مسامع النساء اللواتي ينادى عليهن بأسماء غير حقيقية حتى اختيارهن جرى وفق مواصفات متقدمة من الجمال يتوزعن في غرف كما هي الاجنحة الخاصة .
اخبار العالم لا تشغل الموجودين فالرواد يبحثون عن سبل تنفيذ رغباتهم وشهواتهم والفاتنات همهن ما يملأ حقائبهن من المال والهدايا الاجنبية .
سهر الليالي يبتدي مع تناول الايادي كؤوس الويسكي المستورد ،ونخب البلاد تعقد جميع انواع الصفقات المشبوهة على مرأى ومسمع مديرة المنزل (هند)وهي لا تسمح بان يقال لها (قوادة) فهذا مصطلح سوقي غير حضاري لايمكن ان يطلق عليها ،هي امرأة تجاوزت الاربعين عاماً حنطية الملامح ،ذات عينين سوداوين حادتين لايمكن لناظرها ان يفهم منها ما تريد والممعن فيهما لايستطيع ان يكتم عن صاحبتهما ما يخفيه.معها ابنتها (سهى ) اكملت كلية القانون ولم يشرْ عليها يوما انها ابنة عاهرة ،حتى مرةً شاهدها رجل الامن المتنفذ (ماهر) وهي تلقي سلاما عابراً بصوت منخفض ٍ،سأل أمّها:
-لماذا لاأكون مع سهى ابنتكِ؟
-ايّاكَ ماهر ،ابنتي خط احمر ،احذرْ حتى من التفكير بالحديث معها ولو لدقيقة
-لكنها جميلة جداً أثارتني وكأنها أذهبت الخمر لتسكرني بما هو اشدّ تأثيراً
-اسمعني انا امرأة عاهرة ساقطة وحياتي نجسة بكل تفاصيلها لكن سهى هي فقط النقطة النظيفة الباقية عندي ولو اقتربت منها سأدمركَ وسأحرق الدنيا على آبائكَ واجدادكَ.
تحوّل الحديث بينهما الى اشبه بالمناجزة والمبارزة ليردَّ عليها منتصراً لطغيانهِ:
-كأنكِ تهدّدين وانتِ موجودة بحمايتي منذ اعوام فهل تنكرتِ لفضلي فلا مساءلات ولا شبهات ،جعلت من بيتكِ كمزار للدبلوماسية الحكومية واعليتُ شأنكِ في هذه المدينة الراقية ،كما كتمت انفاس من يتجرأ عليكِ حتى بالظنّ،لكنكِ نسيتِ بأنّي استطيع محوكِ لو شئتُ ومن تكون سهى ليكون ثمنها غالياً الى هذا الحدّ الذي تضحّين بما لديكِ من اجلها
-اسمعْ يا هذا لا انتَ ولا غيركَ يتمكن منّي وتذكّرْباني استطيع الوصول الى مرؤوسيكَ متى اريد وسترمى على الرصيف ان لم تقتلْ .
بعد هذا الشدّ المتواصل بينهما تحوّل المكان الى صمت يكاد يخلو من اجواء الترف المعتادة فيهِ مع مجيء سهى بعد مغادرة الرجل وقد دار الحديث بينهما بهدوء :
-ماما سمعت حديثكما ،كنت أظنُّ انّي ابنة لأحد هؤلاء
-لا سهى ،لاتجرحيني،ابوكِ قتل قبل عشرين عاماً في الحرب وطردتُ وانت معي الى الشارع وحرموني من كل مستحقات موتهِ بأوراق مزورة اثبتت عدم وقوع الزواج وبقيَ معي للان عقد الزواج المصدق من المحكمة
-لكنّ هذا ليس مبرّراً لما فعلتِ وما اصبحتِ عليه بعد حين
-المجتمع لم يرحمني وهو من شرّع لي الانحراف والخطيئة وهو يحاربني ،فقط سعيتُ للحفاظ عليكِ وسط تناقضاتي وانكساراتي لأمنحكِ حصانة لا يمكن اختراقها.
مع تقادم الايام تتغير حكايا هذا المنزل لتصل بهِ الى ليلة امسى الجميع يترقب اخبار الساعة ،احد رواد المكان يتحدث مع آخر :
-هل تظنّ ان امريكا ستفعلها ؟
-بعد منتصف الليل ستنقضي مهلة اليومين
-اذن الحرب قادمة
-لكن السيناريوهات لها لا يمكن التنبؤ بها
-وهل نحن نمتلك سلاح المواجهةللبارجات والقاصفات البعيدة المدى ؟
-حتى لو امتلكنا ولكن هل النفوس امتلكتها ؟
ليالي بغداد تنطفىء بمشهد دراماتيكي لايصدّق بأيام معدودات يتساقط الجنرالات وتختفي اخبارهم لتصبح حكايا المساء مليئة بأخبار القادمين مع المارينز وبالمنشغلين بافراغ المؤسسات الحكومية من قبل مافيات السطو المسلح على البنوك والآثار التي سرعان ما وجدت سوقها مهيّئةً في عواصم الغرب .
حين يحدث الهرج والمرج في مدينة متعبة فأن البسطاء وغير المثقفين يصدقون ما يرون من مشاهد التغيير وفق ملامحها الظاهرية الّا المثقفين فلهم قراءة اخرى للاحداث مختلفة لا تتسرع في الحكم على الامور بغير دراستها والتمعن فيها .في احد باصات النقل الذي عادة ما يتحول الى منبر للنقاش الطويل لزحمة الطرق واغلاق الكثير منها تسمع الناس تقول :
-أتعلم عدد الاحزاب تجاوز المئتين ؟الى ايها نذهب في خياراتنا ؟ونحن نجهلهم جميعاً
-الاصعب من هذا ان الكتل دينية وعلمانية واخرى شيوعية وغيرها قومية ثم ملكية وناصرية، ؟
هند وسط هذا الضجيج اغلقت منزلها بنفسها وغادرت لتسكن بيتاً صغيرً مؤجراً مع ابنتها
وقبل ان يسكنهُ السياسيون الجدد فجّر المنزل وكأنّ هناك من كان يرصدهُ سابقاً ويعلم تفاصيله ولكن خوفهُ من السلطة السابقة ابقاهُ ساكتاً فكيف وقد جاءته ُ الفرصة لأزالة الرذيلة حسب ما يشيع ويدعو للفضيلة .
الناس ترقب وتراقب وصارت القنوات الفضائية تلاحق السياسيين حتى الى دورة المياه .يبدو ان هند لم تفاجأ وهي تشاهد رجل الامن القديم ماهر برلمانياً ينتمي الى كتلة دينية ،لم يضف الى ملامحهِ غير لحية سوداء خفيفة ونظارات تقترب في شكلها الخارجي من الطبية ،رجل خمسيني لا يخلو حديثهُ من لغة التدين مع الابتسام والتباطؤ في اخراج المفردات .
تحزم هند امرها بعد ضيق عيشها ومعها سهى للذهاب اليهِ وهو بدوره لم ينكرها خشية ان تفضحهُ لو تجاهلها ابتداءاً ،يرحب بها وبابنتها :
-تفضلي اجلسي
-شكرا لك دكتور
-كيف انتِ الان بعد ما سمعتُ انكِ بلا سكن ولا مال
-نعم ولهذا جئتكَ اليوم مباركةً ومحتاجةً
-لاعليكِ ستجدين ما تريدين ان شاء الله ،ولكن لي طلباً اتمنى ان لا ترفضيهِ
-ما هو دكتور
-ابنتكِ
-زوجةً
-اريد جسدها وساعطيكِ المال واشتري لكِ منزلاً جديداً في مكان لا يعرفكِ الاخرون ويجهلون ماضيكِ
-اذن ما زلتَ تبحث عن الرغبات والشهوات وانكَ ارتديتَ لباس الدين مع موجة السياسيين وان في داخلك الرذيلة ولا يمكن ان تنساها .انتَ تتأمّل المستحيل ولو ملّكتني الدنيا فلن تطال جسد ابنتي
-اسكتي ايتها الساقطة ومن يصدق ما تدّعين وكأنكِ صاحبة مبادىء واخلاق في الحفاظ على ابنتكِ هذه ،وهل نتعلم من مواخير العهر والدعارة ،وهذه الملايين تصفق لنا نحن المصلحون الجدد
-انتَ لم تصلح نفسكَ المريضة ووجودكَ سينشر العدوى لهذا المجتمع بممارسة الكذب والخديعة والنفاق ،اتمنى ان تكون انساناً لمرةٍواحدةٍ.نعم انا عاهرة وساقطة ولكني صادقة مع نفسي
-أغربي عن وجهي قبّحكِ الله يا فاجرة
تخرج هند مع ابنتها وان كانت غير مستغربة او نادمة ولكنها فقط لتلقي الحجة عليهِ امام ابنتها ،وقبل وصول قدميها اعتاب باب بيتها تسقط على الارض تغطيها الدماء بعدما انهال عليها الرصاص من مسلحين امام اعين الناس لتسجّى على ذراعي سهى متخذةً منهما وسادةً لتفارقها دونما كلمات وداع ودون ان تقام عليها الصلاة راحلةً بلا تشييع سوى دموع ابنتها وهي تتساقط على جسدٍ امضى العمر في الخطيئة محاولةً ان تطهّر بقاياهُ في الذاكرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق