الشاعر لطفي الشمسي رجل حمل كل أبجديات الحزن والألم ، حتى تحولت هذه الأبجديات الى قضية لا تخطؤها العين في شعره ، فهي تموج في دیوانه ، يتضح هذا أبتدأً من عنوان ديوانه الموسوم (للذاكرة أزقة موحشة) وأنتهاءاً بتفاصيل أخر نص فيه الذي شمل أكثر من ثمانين عنواناً ، ونظرة سريعة لتلك العناوين نحسها تمثل سيرة ذاتية للشاعر ، فكانت لهذه العناوين أهميتها في فك شفرة نصوص الديوان ، بما تحتويه من رمزية ودلالات مختلفة ، شكل الحزن فيها ظاهرة وطابع عام من خلال تخلله وتسيده على جميع قصائد الديوان ، حتى أننا نرى عدم قدرة الشاعر على تجسيد روح التفاؤل والفرح فيه ، ولكن كيف يتوقف عن الحزن وهو يمثل عصارة قلب حزين ؟ . فلو أردنا أن نسلط الضوء على مفردة (الحزن) وكثافتها في الديوان ، فأننا نلاحظها في الصور أو المفردات الدالة عليها ، فدلالة الحزن تتضح من خلال الربط بين نصوصه الجزئية بكل مفرداتها والصورة الكلية للديوان .
نحن نعرف جيداً أن للحزن جذور تاريخية عميقة بعمق تاريخ سومر وأكد شكلت سيكولوجية الشخصية العراقية عبر التاريخ ، حتى أخذ الحزن الطابع البنيوي في هذه الشخصية فأضحى السمة البارزة في سلوك الفرد العراقي ، وهو رد فعل لعدم التكيف مع الواقع ، فيأتي من داخلها بسبب أو بغير سبب . أما الفرح هو الاستثناء في هذه الشخصية ، وقد تكون هذه الرؤية هي ما ذهب اليها الروائي الأمريكي هنري ميلر (1891- 1980) بقوله أن:(كل إنسان هو صحراء نفسه المتمدنة، هو جزيرة النفس التي يتحطم على ضفافها، والسعادة نسبية كانت أم مطلقة غير واردة) . ويمكن أن نعد هذا من العوامل المؤثرة في خلق حالة الأبداع والقوة الدافعة له في تحقيق الإنجازات على المستويات الفنية والأدبية . يؤمن الشاعر لطيف الشمسي بأنه ليس هناك لحظات فرح في حياتنا تستحق الكتابة عنها ،فالحزن فيها يحمل نسمات الشجن المؤلم ، فهو ـ الحزن ـ ضيف دائم في قصائده يحتل مساحة القصيدة بكاملها . وكأنه ـ لطفي الشمسي ـ يقول للأخرين أن (الفرح ليس مهنتي) على حد تعبير محمد الماغوط .
أما المعادل الموضوعي الأخر في حزن لطيف الشمسي عبر عنه في المآسي والمحن التي ابتلى ويبتلي بها الشعب والوطن ، حيث جسد هذه المآسي من خلال عرض صور الفجائع التي يتعرض لها الوطن .
لقد سيطر الحزن كـ(ظاهرة) في الشعر المعاصر بكل أجناسه ، حتى صار محوراً أساسیاً فی معظم ما یكتبه الشعراء المعاصرون من قصائد، حتى أخذت لغة الشاعر تنحى منحى واقعياً ومباشراً عكست معاناته الشخصية بصور شعرية متقنة تفرض نفسها على المتلقي ، نتيجة البناء اللغوي و القدرة علی الدلالة الفنیة .
أن المعجم الشعري للشاعر من حيث المفردات أو التراكيب التي يستخدمها، فالشاعر حصر نفسه حول كلمات أو مفردات تندرج في أفق واحد هو الحزن من خلال المزاوجة بين اللفظ والمعنى . أن (فاعلية الصورة الشعرية عنده تقوم على مدركات عقلية تكشف عن وعي شعري يقوم على وحدة موضوعية أمتازت بسلامة إيقاعها وصياغة لغتها) . لتصور الواقع المعاش كما هو دون اللجوء الى الرمزية ، وإن وجدت هذه الرمزية فهي محدودة خالية من الغموض .
وأخيراً هناك أشارة لابد أن تذكر أن الشاعر ذكر لفظة (الذاكرة) أكثر من مرة كعنوان لنص أو تكون ضمن مفردات النص ، وأن الذاكرة والحزن بما يحملان من ألم متلازمان فلا يمكن أنفكاكهما والتغلب على الألم إلا بالقضاء على الذاكرة لأنها مكمن الأحزان ، وهذا المعنى أكده الفيلسوف والكاتب الروماني إميل سيوران (1911-1995) حين قال:( على الإنسان ان لا ينبش في الذاكرة إذا أراد ان يكون سعيداً) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق