*المقدمــــة:
عن المركز الثقافي للطباعة والنشر، صدر ديوان الشاعر عبد الهادي عباس بعنوان (.......أو هكذا هي العاصفة)، ط1، سنة 2016م، احتوى على سبعين نصّاً بين التفعيلةِ والنثر، ويقع الديوان في مائة وأربعة وعشرين صفحة.
تتمثلُ النصوص الشعرية، بصورة عامّة لدى الشعراء، بين التشبيه والاستعارة واساليب البلاغة، والدلالة الرمزية أو الاسطورية أو ما كانَ اسلوبياً أو بنائياً أو دلالياً، في البناء الشعري في النّص، وقد تدورُ أحياناً على شكلٍ دائري أو مغلقٍ أو مفتوح، وبين الموضوع الذاتي والوجداني في معمارية القصيدة؛ التي تدورُ في فلك العوالم المتخيّلةِ، والفضاء الميتافيزيقي، وفسحةٍ في فك الارتباط مع الواقع، والتجربة الاشتراطية أو التجارب العرفانية.
وبعد الصور البلاغية التي يتخذها الشاعر العربي في كتابته، تطورت الصورة الشعرية على مسار الكتابة وفق التطور الدلالي والابداعي في استخدام الادوات المختلفة وفق تقنات الكتابة الحديثة في التكثيف والاختزال، حيث استمدّ الشاعر صورته وفق استخدام اللغة استخداماً رمزياً، وتداول الصورة الشعرية للتقليل من شأن القافية والوزن، فيلجأ الشاعر للصورة للتعويض عن شكلية النص، وموسيقى القافية، لتنساب موسيقى داخلية هي موسيقى الاحساس، مع صورةٍ تتخذُ دلالةً لغويةً،وذهنيةً، ونفسيةً...
*العناوين:
نبدأ بقراءة عنوان الديوان: (.......أو هكذا هي العاصفة): بدأ العنوان بتنقيط، وعدد النقاط في الغلاف قبل الكتابة بالحروف هي سبعةُ نُقط، في حين كان عدد النقاط في الصفحة (3) تسعةَ نُقط . ويعني هذا أن هناكَ كلاماً قبل الكلمات التي شكّلت هيكل عنوان الديوان، وعلى المتلقي أن يضع الكلمة المناسبة في الفراغ بعد الانتهاء من قراءة الديوان. ولعلي قرأتُها بقراءتي المتواضعة انها كلمة (الخراب) التي استعاض عنها الشاعر بالنقط(.......) حيث يقولُ الشاعر(ص:34): (كلّ هذي الليالي ارتدتها/ هنا الأقنعة/ ويبقى الخرابُ طريقاً الى المقبرة.)؛ ويقولُ أيضاً في (ص: 56): (ما يقلقُهُ/ أنّ خراباً لاحقهُ/ حملَ الآنَ جنازتَهُ..). فكم عاصفةٍ رآها وشهدها الشاعرُ في عمرهِ، فكانَ العنوانُ صلاةً كي لا تولدُ عاصفةٌ أخرى..؟؟!!
* أمّا عناوين النصوص:
فقد تكرّرَ في عناوين النصوص، والعناوين المتفرعة من النّص الأم، عناوين : الورد، الوردة، ورد؛ وردتان، قوافل الورد؛ كما تكرّرت كلمة: الدار، البيت، وكلمةُ: النهر، والنّص. كما حملت النصوصُ عناوين: الطير(ص:62)، الطيور(ص:11)، الطائر(ص:47)، البعوضة(ص:23)،عشبةالقبر(ص:76) ،البلبل الجميل(ص:84)، الكلب(ص:39)،الفئران(ص:10)،النورس(ص:50)،أطفالنا(ص:78)،الطفل(80)،و الطفل(ص:95)، الطفل والأرملة(ص: 102).
نقرأ من العناوين مدى عذوبة الشاعر ورقّة استخدامه للعناوين بما تحملهُ من رومانسية وظرافة موضوع وصورة. والتكرار في عنوانات النصوص مقصودة من قبل الشاعر، لأنها الأثيرةُ لديه، وهي من واقعه ومدى تأثره بصورة اللفظة والمفردة. فأنت تلحظُ الصورة الشعرية في الديوان لم تقتصر على النّص بل امتدت ليكون العنوان صورةً شعرية أخرى.
*الصورة الشعرية في النّص:
في كل نص صورةٌ شعريةٌ، تمثلُ حالةً من الحالات التي يحياها الشاعر، باختلاف الاحساس والمزاج، ففي نص (صورة أبي) نجد صورة العمر التي تمثلت في النص، وفي نص (التوقيع، الفئران،الطيور، الزائر): صورة موت، وفي نص (العاصفة): صورة الكارثة، ونص( عشبة ضائعة): صورة أقنعة، وهكذا في بقية النصوص ، ترى وتلس وتحس الصورة الشعرية هي الأبرز، وهي التي يرسمها الشاعر، وتظل الوان الصورة بيد المتلقي الذي يتذوقها حسب ثقافته وتفسيره وتحليله . وقد ابتعدَ الشاعرُ عن التقريرية والخطابية، فهو انتقى الألفاظ الموحية، والصور والعبارات المكثّفة، مع ملائمة موسيقى النّص لموضوعه. فقد كانت الصورة عند الشاعر (عبد الهادي عباس) قيمة فنية انسانية توازنُ بين المتعة والإثارة لدى المتلقي مع الواقع المعاش وقضايا الفكر والتجربة.
فهو يقول: (في أقصى الصورةِ / مفرزةٌ للتفتيش)، و..، (للصورةِ ضلعانِ/ ضلعٌ خاوٍ/ ونزيفُ ضمير..)، و...،( نقرَ البابَ بإصبعهِ/ فإحمرتْ شرفةُ عينيهِ خجلاً..)، هذه هي الصورة التي وضعها لنا الشاعر التي جعلتنا نسوحُ بين تجربةٍ من الخيال المعفّر برمل ودخان الواقع ، وبين تجربةٍ عرفانية تأخذنا نحو فضاء ميتافيزيقي أرحب، ليس له جغرافيا محدّدة.
*أعمدةُ الديوان:
حين تتبعتُ نصوصَ الديوان، وجدتُهُ يرتكزُ على خماسية أعمدة، وهي: (البيت، الورد، النهر، النّاي، النّص).
-العمود الأول: البيت: يكادُ لا يخلو نصٌ في الديوان من لفظة (بيت، دار..) فهو الشاغلُ والهمّ الأول ، وكأنهُ رفيق القلم والمشاعر لشاعرنا:
(بيتٌ ثملٌ/ وحديقتهُ الأوانٌ شتى..)،و..،( بيتٌ يحلمُ بالمطر الأبيض)، و..، (البيتُ في مسارهِ يرهقهُ الدمار..)، و..،(ثمّةَ أسئلةٌ للدار)،و..، (أنتِ البيتُ الذي أحب..).
للبيتِ في نصوص الشاعر، اشارات متعدّدة، فهي: البيت، الدار، السياج، النافذة، الباب، الرصيف، الشارع، الأحجار، الحديقة، البستان، ..
كما للبيتِ صورتان: الأولى، البيت المهدّم، البيت المشكلة، القضية، (وسياجُ دارٍ خاوٍ..)، و (يلتهبُ الحقلُ في بيتنا)، (فمتى نعيدُ لهيبةِ البيت السياج؟)، هذا السؤالُ المهم والخطير..!!؟؟
بيتٌ تتقاذفهُ الريحُ، وأبوابهُ مغطّاةٌ بالتراب، وفي فمهِ أسئلةٌ كثيرةٌ، وسياجهُ منهار، انها صورة البيت بعد العاصفة...
والصورة الثانية ، هي صورةُ البيت المأمول، المتنى، والمتخيّل، (بيتٌ ثملٌ..)، (بيتٌ يحلمُ بالمطر الأبيض)، (ليطيرَ بأحلامٍ وردية)، .. البيت الحُلم.
وهنا، فالبيتُ هو السكن، الذي تسكنُ فيهِ الروحُ والقلبُ، ليس الجغرافيا، وليست التضاريس، وليست خطوط الطول والعرض، وليست هي التعاريف الجاهزة والزائفة للوطن، أنها بقعة ارض، وحدودها، بل البيت الذي يحضنكَ حباً ويمنحكَ الدفأ والحنان والأمان، ويفتحُ لك أبواب ونوافذَ الابداع.
-العمود الثاني: الورد: ينتظمُ الورد في قوافلَ، ويتجلّى صباحاً، ويمطرُ قصائدَ، والوردُ يؤرخُ أيام المحبين، ويلوّنُ أقدارهم، ويفصحُ في لغةٍ لا يمتلكها أيّ كائن. فتجد الورد يتكرر في عناوين النصوص، وينتشر شكلاً ولوناً وعطراً بين ثنايا الديوان الغلاف الى الغلاف، فهو يقول: (عاشَ ضميرُ الورد يا أبتي)، و..(الليلُ فمٌ للوردة)، و..،(ولكي تبقى الوردةُ في طينها/ لا تفصحْ عن فمها/ بين وريقاتِ العطر)،و..، ( جسدٌ يسكنهُ وردٌ أبيضُ/ ليطيرَ بأحلامٍ وردية/..)،.. أنهُ الوردُ يا صاحبي، وقد اخترتْهُ بذكاء وذوق، ليأخذنا عطرهُ بعيداً عن المحطات الآسنة في حياتنا.
-العمود الثالث: النهر: ها أنتَ ترى، البيتَ، والوردَ، والآن النهر، رمز الحياة، رمز الخصوبة، والنماء، ها هو النهر الذي يرسمهُ شاعرنا، فهو: (النهرُ تجاعيدُ العمر)، ..و، (والدهشةُ في جيب النهر)،و..،( والنهرُ تحرسُهُ ينابيعُ السماء)، وها هو يا صديقي النهرُ ( إنّ النهرَ يؤججُ فيكَ الصورَ الأنقى)، وها هو النهرُ يا صديقي: (فخذني/ نحرسُ النهرَ الجميل/ لنحاكي الحرف/ والبيت القديم/ ونباري الضفتين/..) . أنهُ النهرُ الذي يظلُ حاضراً في مخيلته وفي اللاوعي عند الشاعر، ذلكم هو شط الحلة، مرابع الصبا، والشباب، وليالي العشق والحلم.
-العمود الرابع: النّاي: الشاعرُ يحن ويأن في نصوصه صمتاً وحزناً وفرحاً، تتسلقُ الموسيقى حرفه، وها هو يختار ناياته، النايات الحزينة، نايات البُعد، والذكرى، ومحطات الألم، فهو يحتفي بناياته، ليقول: (بأغانٍ ناعسةٍ والنايات)،و...،( ونايٌ بهيأتهِ القاتلة)، و...، (هي الروحُ نايٌ قديم)، و ...، (وناياتنا فاضَ فيها الزمان)، و.. يظل يعزفُ ويعزفُ بناياته حتى يقول: (ولآخر ناياتِ المحنة).
-العمود الخامس: النّص: فالنص كائن يتحركُ في الديوان ينمو ويكبر، (النّصّ على الجدران)، و..، (ارتبكَ النّص)، و...، (شاختْ خلفَ الضلعِ نصوصٌ أخرى)، فالنص انسان تارةً طفل وأخرى شباب، ومرةً أخرى يشيخ، والنّص عاشق، (والظلّ يعانقُ تلك الورقة/ إذْ يداعبُ ضلعَ قصيدتها أكثر..)، و..(كتبَ النّصَ وماتَ وحيداً)، وختاماً لأوراقهِ يقولُ: (إنْ جفّ دمي.../ ذلك نص..).
فالديوان يؤثثُ ويتمظهرُ بهيئةِ كارثةٍ، ويرسلها رسالةً للعالم بأن لا تتكررُ مأساةً أخرى. هل هذا هو كلّ الديوان (.......أو هكذا هي العاصفة)، لا أظن..!!؟، فالقارئ والناقد والدارس، سيجدُ الكثير، مما لم استشعرهُ، وربما لم يتلقفْهُ خاطري.. تحيةً للشاعر الأستاذ عبد الهادي عباس، تجربةً وانسانية..!!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق