صوت شيطاني يخاطبني :
- غبي.. الحرب .. هي الحرب، البقاء للأقوى والمعادلة لا تقبل القسمة على أثنين. أن لم تأخذ النموذج فغيرك سيفعل.
أدرت وجهي نظرت من خلف الزجاجة الخلفية لسيارة المجروس " سيارة اسعاف روسية" على الجثة الملقاة في غرفة الإسعاف ولديَّ شعور أنه يصرخ بشيء ما أو يردد كلمات من شفتيه بيد أن عينيه المفتوحتين بخجل وحاجبيه اللذين قطبا يشير إلى أنه غاضب من تصرفاتنا التي لم تراعي حرمة جسده الممزق . طلبت من السائق القيادة على مهل وأن لا يستعجل.
- شنوا أنت مخبل لو نصل الى مركز تسليم الشهداء باليل لو ما نصل. تريدنا نبقى بالجبهة عراة بدون ملجأ أو خندق. قذيفة واحد ونصبح من المغفورين لهم.
تجنب الحديث والذود بالصمت والتكلم الا ما ندر فلكل جملة اختلاق كذبة وهذا ما حاولت اتحاشى الوقوع فيه، من جهة رفيقي لم يكن يجهل ذلك التحاشي فكان فضاً غليظاً، واكتفيت بستر عيني خلف جفوني المغمضتين والتظاهر بالنوم ورحت أفكر مع نفسي :
- ماذا لو نطق الجسد؟ ماذا سيقول عني ؟! أسئلة تدور في فلك الدوار هل سيشكرني أم سيحقد علي لأني سأفجع أهله بمصابه.
يخالجني شعور أنني وحش وأنا أقف متحيراً أمام جسد مزقته شظايا قذيفة مدفع سقطت على ملجأه وأحالت جسده كنثيث الزجاج المتهشم والدماء تسيل من الثقوب كمزراب حتى جف جسده، فالضمير الأخلاقي فقد القدرة على فرز الأمور الحسيه التي تنتابني والقدرة على السيطرة على المنبهات التي تجتاحني تركني في صراع ذاتي . انطباع مؤرق يغلف الذهن على عدم أدراك الصورة بأشكالها وألوانها والضبابية تشوش الرؤية ،من المستحيل أن أحدد مقدار الخوف من الحرب وأقدامي متعجلة للهروب كحوافر خيل تساط بالسوط.. الخجل من الشهيد.. الفرح لمشاهدة عائلتي سويعات قليلة، ولا أعرف هل جبلت طينتي بخبث واستهتار؟.
لم يخطر على بالي أن طلب حضوري إلى ملجأ مساعد أمر الفوج أني سأحصل على نموذج أجازه كمأمور إلى بغداد. كنت أعتقد أني لم أراه بعد آخر نموذج حصلت عليه منذ أربعين يوماً. فالحرب على أشدها والحجابات والسواتر مشتعلة بالمناوشات الشبه يومية فكان الحصول على النموذج أشبه بالحلم.
قدمني نائب ضابط "مال الله" رأس عرفاء الفوج إلى المساعد بعد أن تأبط عصاة وأدى التحية العسكرية بأجلال كبير فما كان مني سوى تأدية التحية بنفس الطريقة ولكن ليست بمستوى نائب ضابط مال الله . تفحصني النقيب بنظرة غريبة وراح يدور حول نفسه متخبطاً متعثراً بخطواته وكان مشدود الأعصاب ومتوتر بان عليه الحزن الشديد.
- أنت نائب عريف احتياط ياسر
- نعم سيدي النقيب.
- أنت من سكنة منطقة الرحمانية في بغداد
- نعم سيدي النقيب
- أنت مكلف بمأمورية نقل جثمان الشهيد الملازم أول "أثير " أنه من سكنة نفس المنطقة ومأموريتك لمدة أربعة أيام فقط.. مفهوم
- نعم سيدي النقيب
- أدي المهمة بسرعة وأبلغني بعودتك. وعليك أيصال بعض الأغراض والتجهيزات وتسليمها إلى ذويه
- نعم سيدي النقيب
- نائب ضابط "مال الله" هيئ عجلة تنقل الجثمان إلى مركز تسليم الشهداء في الزبير وإصدار شهادة الوفاة.. الجثمان لا يتحمل البقاء أكثر من ذلك
- نعم سيدي
خرجت مع النائب الضابط بعد أداء التحية العسكرية
- "بعد شتريد" ياسر "هاي أجازة أربعة أيام من العمر . كول عمك ميحبك.. روح أفلت ".
الذو بالصمت كان أفضل خياراتي أمام رعونة وحمق نائب ضابط مال الله واستخفافه بالمهمة. سائق السيارة يلوح بيده ويصرخ بوجهي:
- يمعود أصعد بسرعه.. خلينا نخلص؟
ركبت سيارة المجروس
- يمعود أصعد خلي نفلت قبل ميحل الظلام.
انطلق السائق يقود السيارة بسرعتها القصوى مخلفاً سيلاً من أمواج الغبار يحاول الوصول قبل خفوت ضوء الشمس في طريق ترابي شديد الوعورة محاط بساتر ترابي على جانبيه مليئاً بالحفر والمطبات، فخضخضت السيارة حفزت مثانتي لجمع اليوريا كانت مدعاة للتبول. الطريق من جبهة كرخة نور إلى مدينة البصرة استغرقت الظهيرة وأول الليل رغم براعة السائق في قيادة السيارة القديمة. السكون يولول في مدينة البصرة، دروب فارغة مختنقة بالجيش وواجهاتها تحتضر تحت وطأة الحرب. ملامح متحجرة لمدينة تنفث اليأس فلا سندباد ولا العشار ولا النخيل ولا ملتقى العاشقان الخالدان ولا القرنة ولا شط يبعث الروح زخارف وعرائش خوت وتكتم عطش يلكز الكبد وملح الجفاف ينحت أزاميل حارة للحن محترق منثور على المفترقات والطرق. ساحة سعد عمق ألم أرعن ينقسم بلا وعي يرفرف برايات تلفلف توابيت على ظهور سيارات تقطع مسافات تتوسد الطرق في لحظة استبداد تزف أنشودة بكاء وصراخ وحكايات عيون تمنح جواز مرور لدموع مالحة. روح الطين والماء في ثنايا وجهها منحوت في خارطة الزمن مدينة الأنهار تتنفس رايات سوداء ولم تعد تتنفس نخيلاً وفسائل والسعف يتأفف لظى .رصيف مغبر رمادي بائس ما عادت تهب الحناء في زمن عضوض وعقيم وعاق وزائف ومضلل بالواجهات يخفي خلفه دموع تنهل من عمق أرواح مخضله بالحزن..
فراغ عابث وليل طويل في وخمة شواظ الحر ،وأنا أقف طويلاً أمام استعلامات مركز تسليم الشهداء في الزبير .. الفرح لفلف السائق طلب مني الذهاب إلى مدينة الزبير :
- أكو بيت بيه خوش نسوان .. أنروح نشرب بطلين بيرة ونتونس ونرجع بسرعة . شتكول .
- كان الرفض الشديد من قبلي : أنا لا أذهب إلى مثل هذه البيوت . أنت أذا تريد تروح روح.
- عمرك خسارة هاي خوش فرصة .. طبعاً أنت رايح لبغداد .. وأني أرجع لغضب الله هناك
ملأ رفيقي صدره بالهواء والطمأنينة وأخذ يمسح الطريق بعينية مبتعداً وأغلب الظن أن قلبه يدق بسرعه أكثر من المعتاد.
الشعور بأن الأرض تنزلق من تحت أقدامي عند اقترابي من منطقتنا وقد اندرست ملامح الخصوبة وأصبحت أرض عجفاء كعجوز عاقر تهرئ جسدها وأخشوشن .الأعصاب على أشد توترها وصرخات الاستغاثة حبيسة الصدر و الصبر والصمود تلاشى أمام بقع الدم السوداء المتيبسة على حصيرة التابوت.
رعشة عذاب من وراء الباب، ودرب محاط بزهرة الرحيل، نزيز من جوف عيون غائرة، جسد هزيل يعانق حافة التابوت، تنفش صحراء رأسها خرجت من واديها تحفر بأظافرها أخاديد، تحتضن طفولته تغترف صورته تولول حضنها الفارغ بملابسه نام يا يمه نام.
خيط من ألم يزحف مع خطواتي لا تغسله قطرات الماء يصرخ مع دقات باب بيتنا منادياً: أمي ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق