لا تأتي الآن
فللريح بيوت لا نعرفها
لا تأتي الآن
فعند الشاطىء تمتدّ الأحجار على جسدي
أو تشتعل الأزهار على دمعي
لا تأتي أرجوك ,فنصفي تأكله اللوعة
والآخر
يمضي في عشق قدّ على وجهي
لا تأتي الآن
وقلبي مذبوح
والشاطىء يدفع ضوئي
لا أرجوك
فأنت بكائي
سامحني من هذا الهمّ
وسامحني , أن لا ألقاك وحيدا
كيف أحبك
أو أنساك
وكيف أغادر عينيك
وكيف تغادرني كفّيك
فلا تمسح دمعي
أترك قلبك بين الريح
ودعني أبحث عنه
أترك قلبك بين الموج
ودعني أجلس منتظرا هذا الزبد العالق بين الصخر
فصوت الريح يعذّبني
أرجوك
لا تأتي الآن
لقد طوّقني طيفك
ثمّ سرينا بين حجاب مجهول .
.........
ثانياً : القراء النقدية :
" لا تأت أرجوك "
ينهاه ويكفه عن المجيء والكف كما تدل صيغة النهي على جهة الاستعلاء ، ولكن مع الفعل " ارجوك" تخف دلالة الاستعلاء ويصبح النهي ضرباً من الالتماس ، والتوسل ، والاستعطاف ، ثم تأتي كلمة الآن لتؤقت الكف وتحصره في هذه اللحظة الزمنية ، في الوقت الحاضر .
لا نستطيع أنْ نمنع أنفسنا من السؤال عن الوقت الراهن ، ما الذي يجري فيه ، فيجعله غير لائقٍ باستقبال هذا المنادى المرجو ؟؟
يقول الشاعر :
" لا تأتي الآن
فللريح بيوت لا نعرفها
لا تأتي الآن
فعند الشاطىء تمتدّ الأحجار على جسدي
أو تشتعل الأزهار على دمعي"
للريح بيوت لا نعرفها : كيف يكون للريح بيوت وهي كائن الانتقال والعبور ، كيف يكون لها إقامةٌ ويكون لها محطات؟؟
ولماذا تكون الريح سببا في منع الاستقبال والضيافة ؟؟
في القرآن الكريم ترتبط الريح مفردةً بالشر وجمعاً بالخير ، وهي مفردةٌ هنا ولكن منازلها جمعٌ ؟ كأنّ الشاعر يقول : لا تأت فالشر هنا كثير النزول ، مستقر هنا إلى حد بعيد
إذن فالشاعر حريص على ضيفه، يريد له السلامة ، ويرغب له بالحفظ .
" عند الشاطىء تمتد الأحجار على جسدي "
عند الساحل حيث يتصل النهر والبحر ويبسط أمواجه تمتد الأحجار على جسدي .
كان الصواب أن يقول : الأمواج ؛ ولكن الشاعر أدرى منّا حين يجعل الأمواج حجارة وصخورا تتدفق على جسده .
هي كثيرةٌ كثرةً كاثرةً ، حجرٌ واحدٌ يشجُّ الرأس فكيف ببحرٍ من الحجارة ؟؟!!
إذن فالشاعر يتحدث عن شرٍّ مستطير ، عن أذىً بالغٍ ، عن ويلات .
ما هذا الشرُّ المستطير ، ما هذه الويلات التي فاقت الحدَّ ؟؟
يقول الشاعر :
" أو تشتعل الأزهار على دمعي "
كأننا بتنا قريبين من حقيقة هذا الشر ، قريبين من طبيعة هذا الحاضر ؛ فالنار تدبُّ في الأزهار ، وتندلعُ ، وتلتهب .
لم يقل على عيني ، وإنّما قال: على دمعي ؛ يلفتنا إلى حزنه وحرقته وألمه .
هذا الشرُّ يستهدف كما رأينا اثنين :
- الأزهار أي ما يرتبط بالرائحة الذكية الطيبة ، وبالبهاء ، والألق ، والجمال ، بالرغد والخصوبة والعطاء .
- والإنسان الذي يتوخّى السلامة والحفظ وكفَّ الشر ّ.
يقول الشاعر :
" لا تأتي أرجوك ,فنصفي تأكله اللوعة
والآخر
يمضي في عشق قدّ على وجهي
لا تأتي الآن
وقلبي مذبوح
والشاطىء يدفع ضوئي "
الشاطيء يدفع ضوئي ، جسده الذي تجري عليه الصخور وتندفع فتدفع معها ضوءه
والنار التي تستعر على الأزهار فتحرق الألق والجمال والنضارة والشذى تحرق وتقطع وتمزق عشقه أيضاً؛ أي إن الشر يستهدف المودة والحب كذلك ؟
صار الشاعر نصفين : - نصفٌ يشاهد موت الأزهار ، وتقطيع أوصال الحب .
- ونصفٌ يتحرّق ويكتوي بما يشاهد .
يقول الشاعر :
" كيف أحبك
أو أنساك
وكيف أغادر عينيك
وكيف تغادرني كفّيك
فلا تمسح دمعي "
" كيف أحبك أو أنساك "
كيف أحبك مع هذا الشر الكثير ، مع هذا الاستهداف للمودة ؟؟
وكيف أنساك ، وأنت المتجذِّرُ في كياني والمستحوذ على روحي ؟؟
" كيف أغادر عينيك
وكيف تغادرني كفيك
فلا تمسح دمعي "
كيف تغيب عن عيني وتغيِّبُ كفيك عني ، فلا تكفكف دمعي .
هذا الذي يكفه عن الحضور يعاتبه على الغياب ، وهذا الذي يريد أن يحميه ويمنع عنه الأذى يحتمي به ويستعينه ؛ ليمسح دموعه التي تشتعل النار عليها ، ليطفأ النار ، ليكفَّ الشرَّ .
يقول الشاعر :
" أترك قلبك بين الريح
ودعني أبحث عنه
أترك قلبك بين الموج
ودعني أجلس منتظرا هذا الزبد العالق بين الصخر
فصوت الريح يعذّبني"
الريح التي طالعنا بها في المقطع الأول شرٌّ ، والموجُ الذي طالعنا به في المقطع الأول صخورٌ تنبسط وتتمطى وتنتشر على جسده
وهما حبيبان ، كلُّ واحدٍ منهما يسكن قلب الآخر ، بل هو قلبه .
إذن فهو حديث عتاب ، كيف تسلمني لشر الريح وأذى الموج ؟؟ وأنت تدري كم أتعذّب وأعاني .
يقول الشاعر :
"
لا أرجوك
فأنت بكائي
سامحني من هذا الهمّ
وسامحني , أن لا ألقاك وحيدا "
لماذ اللقاء جماعي مع هذا الحامي الذي يتوخى منه أن يفعل شيئاً ضدَّ الموج وضدَّ الريح ؟؟
ولماذا يريده أن يعفيه من هذه المهمة التي يزدوج بها الحزن ، أو لنقل ما هي المهمة ؟؟
يقول الشاعر :
" أرجوك
لا تأتي الآن
لقد طوّقني طيفك
ثمّ سرينا بين حجاب مجهول "
اللقاء مع الحامي القادر على الموج والحجارة والنار تحقق ليس على نحو فردي بل على نحو جماعي " أن لا القاك وحيداً
ولكن في الحقيقة لم يكن اللقاء مع الحامي المحبوب بل مع طيفه ، وقد كان لقاء حميماً : ضمٌ وعناق
لكن لماذا نسير بين حجاب مجهول ، وإذا كانت " بين ظرف مبهم لا يرتفع التباسه إلّا بإضافته إلى اثنين فأكثر ، فهذا يعني أن المجهول مغطى ومستوراً بأغطية كثيرة ونحن مع حامينا المحبوب ندخله معا ويحيط بدخولنا الليل .
خاتمة : المجهول ما لا يعرف ، وللريح بيوت لا نعرفها ، للجهل سياقين الأول مرتبط بغايات الشر والثاني مرتبط بغايات الخير
الأول مرتبط بما يقع علينا ، فيحرقنا ويشق العشق على وجوهنا ثقباً وتمزيقاً وتقطيعاً ويشعل النار على دموعنا لهيباً يندلع ويدبّ وينتشر ، ويبسط الصخور والحجارة امواجاً أمواجاً على أجسادنا
والثاني مرتبطٌ بنا أن نتعانق وننضم مع ما لا نريد موته ، ولا نريد أن يتأذى ، مع الذي يحمينا ، ويحمي المودة ، ويحمي الأزهار ، والذي الآن التقينا طيفه ، عانقناه وعانبنا فسرنا معاً في حجاب مجهول .
إذن لكي نخرج من هذا المصير ، من الشر والنار والويل ؟؟ علينا أن نغير الآن ، أن نغير الوقت الحاضر أن نحفظ ما نحتمي به ونحميه ليحفظنا ويحمينا ، إذا فعلنا ذلك وأنجزناه مجتمعين ، متحدين يتحول من طيف إلى حقيقة فيحول حاضرنا من زبد عالق بين الصخور ، لا نفع له ولا فائدة منه إلى أزهار وعشق وسلامة وحفظ
من حجاب مجهول إلى وضوح وجلاء وضياء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق