قضيتُ طفولتي في حالة انتباه دائم وحذر من كل شيء، تعلمتُ من أبويّ أن أنام بعين واحدة لئلا أؤخذ على حين غفلة ،
،فقدتُ أمي وأبي في حريق اندلعَ في شجرة سرو عملاقة ،كان سقوطي من العش كفيلاً بانقاذي من الحريق ،ولكني وقعتُ في يد صبيِِِ صغير ،هذا الذي كنتّ أتوجس منه ،إنه يمسكني بقسوة ويضغط على ريشي فيؤلمني جلدي الرقيق الذي نما عليه الزغب في جسدي الصغير .
الفتى الصغير كان يقضي معظم أوقاته معي ،يطعمني ويسقيني ويمسح على رأسي ويناغيني ثم يضعني في قفص صغير من سعف النخيل ،اطمئنان الصبي لعدم هروبي من القفص، جعله ينساني لساعات طويلة وهو يلعب مع أترابه ،يوما بعد يوم كبر جناحي،أشعرُ أنهما يستطيعان أن برفعاني في الفضاء ،الصبي لم يعد يهتم بي ،أحيانا يتركني يوما بأكمله دون أن يملأ آنية الماء الصغيرة التي تقبع في زاوية القفص ،قررتُ هذه المرة أن اتحين الفرصة للهروب في غفلة منه ، كنتُ أنظر إليه وأتمتع بمداعبته لأخوته داخل البيت.
،لم يكن يسمح لأي منهم بالإقتراب مني ،سمعتُ أخاه الكبير يهدده ،بأنه سيطلْقُني في الهواء لو لم يلتزم بأوامره إذا أرسله في حاجة ما وتمنّع عن الذهاب .يعد يومين جاءت الفرصة التي حلمتُ بها ،فقد امتدت يد أخيه الكبير نحوي وهو يتمتم غاضبا ،أخر جني بكفه الغاضبة ورماني في وجه السماء ،وجدتها فرصة لتقوية جناحيّ بتحريكمها كي أحافظ على إتزاني فيما لو سقطتُ على الارض أو أقع في فم قط جائع أو في كف صبي مشاكس ،
اليوم امتلكتّ حريتي كاملة فما أجمل الحرية وأنا أتنقّل من شجرة إلى شجرة وقد ارتبطتُ بصداقات مع أتراب لي، نطيرُ سوية ونلتقط الحب ودود الأرض، ونتمتع في أجواء الحدائق الجميلة وعبق الزهور المنتشرة، هنا أو هناك عند الأسوار وفي واجهات البيوت الفاخرة ،
كنا يوما نجتمع في ظلال أغصان توت ضخمة والليل يوشح بعتمته كل مكان، إلاّ من بصيص ضوء ينبعث من مصابيح نيون تغفو فوق أعمدة الكهرباء ،فجأة ودون سابق إنذار ارتمتْ فوقنا شبكة كبيرة أحاطت بأغصان وأوراق الشجرة .منّا من أفلتَ منها والبعض سقط فيها، كان من سوء حظي أن أكون مع من وقع في أسار الشبكة اللعينة ،دنا من الشجرة رجلان ..لملما أطراف الشبكة بطريقة هما يعرفانها ،ولم يفلت من تلك الحركة في جمع أطراف الشبكة سوى صديق لي كان متحفزا قبل حدوث الكارثة، كنّا مجموعة كبيرة من العصافير بعدد مهول ،لا أعرف كيف تم جمعهم بهذه السرعة .
في الطريق كان نصيبي أني تعرضت لمضايقات كثيرة من شدّة الزحام والتدافع داخل القفص الخشبي الكبير ،بتنا في أحد البيوت ليومين متتاليين عانينا فيها نحن الصغار من ظلم وجوربعضنا فقد حُرم الكثير منا من أخذ حصته من الطعام والشراب ،لم أستطع أن أجد الراحة.. إلاّ عندما وضعونا في قفص واسع يسع لخمسين عصفورا، فيه مكان واسع للقفز والطيران والتمسك بجوانب القفص وتسلق قطع ا لخشب البارزة في أركان القفص ،برغم وسع القفص الا أننا كنا نعاني من الغربة والوحشة لعدم العثور على أصدقاء لنا كنا نعرفهم ..في داخل القفص استطعتُ أن أتعرّف على صديقة جميلة ،كانت لا تحب تناول وجبتها إلاّ معي ،كانت مسرورة بوجودي وقد وعدتني أنها ستتزوجني لو حصلنا على حريتنا ،قلتُ لها أنك تطلبين المستحيل ،لن يفكوا أسرنا وسيذبحوننا ،لمَ لانتزوج في القفص؟ ..رفضت ذلك، ولجمالها ورشاقتها تعرّضتْ إلى مضايقات كثيرة من قبل أقران موتورين يريدون اغتصابها وكنت أدافع عنها بضراوة،
،لم أكن أعرف أن لي مقدرة على قهر أعدائي ممن هم في سنّّي، بتلك السهولة ، أمّا الكبار فلا أقتربُ منهم لأنهم معقّدون ،لم أشاهد أحدا منهم يبتسم أو يضحك، كان الحزن يسيطر عليهم تماما ..عند الصباح وجدنا أنفسنا في مكان ،يسمى (سوق الغزل )ببغداد,الناس بالعشرات يمرون بقرب قفصنا وأقفاص لبلابل وطيور زينة وببغاوات وحتى لكلاب صغيرة تملأ السوق منتشرة في كل مكان ،لم يكن يفترب منا أحد ،كانوا يشترون الطبور الجميلة ويتركوننا نجتر أحلامنا الماضية ،مرت ساعات طويلة ونحن ننظر عبر قضبا ن السجن إلى الناس وهم يدورون فرحين بطيورهم الجميلة واقفاصهم الملونة ، حتى أشرف السوق على الانتهاء ، فجأة وقف بالقرب من القفص، رجل كبير يرتدي بذلة عادية ،كان ينظر الينا بألم .. سمعته يتكلم مع الصبي صاحب القفص،طال الحديث بينهما ،حدّستُ أنه يساومه على شرائنا ،لم أكن واثقاً تمام الوثوق من شرائنا جميعا.. أو فرادى .. ربما سيكتفي بعصفورين فقط،
أنظارنا معلقة به وهو يتحدث مع الصبي ،فجاة أخرجَ من جيبه عملة ورقية حمراء وأنقدها للصبي ،ابتسم الصبي وأشار إلى الرجل بالموافقة ..رفع الرجل ذراعه وفتح باب القفص ومدّ أصابعه ليخرجنا منه.. لم نكن نصدق ما يحدث.. هذا الرجل الكريم أطلقَ العصافير القريبة من الباب في الهواء ،ثم سحب يده وانطلقنا نتزاحمُ على الخروج من الباب ا لضيّق وهربنا كلنا ،فرحين تملؤنا البهجة والفرح باطلاق سراحنا ونوال حريتنا ..فوق أسلاك الكهرباء للبناية المقابلة للسوق، توقفَ أقراني والبعض استمر طائرا غير مصدق لتلك المفاجأة، ظللتُ أبحث عن عصفورتي وسط الهياج والفوضى التي حدثت ،أصابني حزن كبير لعدم العثور عليها ،فكرتُ أن أعود ألى القفص للبحث عنها ،اقتربتُ من القفص أنظر بداخله والحيرة تلفني ،سمعتُ الصبي صاحب القفص يصيح بي هازئا:أهرب أيها الغبي قبل أن يصطادك غيري ..علوتُ بجناحي مجتازا أسلاك الكهرباء المتشابكة .. في خضم يأسي وحزني رأيتها ، هذه عصفورتي تقفُ على جدار العمارة المقابل ، ،كانت تنظر إليّ بغنج ، عندما رأتني ، أخذت تدورُ حول نفسها ، مستعرضةً جمالها ورشاقة جناحيها برقصة جميلة تؤسر القلوب وانطلقتُ نحوها بكل عنفواني .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق