(من فم الشاعر تولد اللغة، ومن اللغة تولد كل الأشياء)
الفيلسوف اليوناني
أفلاطون
أستذكر في مقالتي هذه، شاعرنا الراحل (جاسم آل حمد الجياشي)، الذي غادرنا مبكراً، وأستذكر معه الإبداع والتجديد. قد تعجز الكلمات في التعبير عن الحزن الذي سكن قلوبنا بفقدانه. ذهب وذهبت معه أنتظارات كثيرة، كغيره من الشعراء والمبدعين الذين توقف نبضهم بعد أن نثروا إبداعهم من حولنا.
أكتب هذه المقدمة وأكررها مراراً، في محاولة تقمص دور الناقد الذي يكتب عن (شاعر وشعره)، خشية الوصول إلى النقطة، التي أجد نفسي في مواجهة مع الحقيقة وأنا أنعي وأرثي صديقاً لي، يغيب في غفلة عنا، فالإحساس الطاغي بوفاته وخسارته مضاعفة مرتين، كونه أنساناً وصديقاً أولاً، وشاعراً مبدعاً ثانياً. لكن العزاء، كل العزاء، وبما يليق به، أنه زرع في كل أرض من خلال مؤسسته الثقافية (مؤسسة أنكمدو العربي للثقافة والأدب) أصدقاء ومحبين له كثر.
كان (الجياشي) واحداً من الأصوات الشعرية المتميزة في الشعر العراقي المعاصر، فهو مغايراً ومختلفاً في مسيرته الإبداعية التي تكللت بالأبتكار والتجديد في قصيدة النثر على مستوى الشكل والمضمون، وأحدث أضافة في تطوير الحداثة الشعرية في النص الشعري، فشعره نقلة نوعية في عالم الشعر شكلاً ومضموناً. فهو شاعراً منتجاً مبدعاً، ترك لنا ميراثاً من الشعر والنثر.
فقدنا (الجياشي) كقامة فكرية وثقافية وأدبية وشعرية، على مستوى الإبداع، لكن كلماته باقية، في ذاكرة الأدب والشعر. كان “رحمه الله” مثالاً للخلق الرفيع والفكر النير، لم يدخر جهداً في إثراء الواقع الثقافي والأدبي العراقي والعربي، أثراه بروحية الإنسان المفكر ورؤية الشاعر المبدع.
لا أريد أن أرثيه، لأن طقوس الرثاء تتراجع أمام (الجياشي)، فالرثاء لا يليق به، بل يليق به المديح لخصاله العديدة، فـ(الشعراء لا يموتون)، فهم كنخيل العراق الباسق. وإذا أردنا أن نتحدث عنه، ينبغي التحدث عن دماثة خلقه، ولطفه وكياسته، فكانت هذه الصفات بارزة وطاغية على شخصيته، وجزءاً أصيلاً منها.
لقد أطل علينا من صومعته الأدبية المتخندق بها منذ سنين (مؤسسة أنكمدو العربي للثقافة والأدب وتفرعاتها)، وأطلالته اليومية على المشهد الثقافي والأدبي العراقي والعربي المتفاعل معه، وهو المتميز والمتألق به.
"الجياشي" شاعر (رهين المحبسين) القلق والعزلة، فالعزلة عنده طريقة لاكتشاف الذات، لإنها على حد قول نيتشه (ضرورية لأتساع الذات وأمتلائها، فالعزلة تشفي أدواءها وتشد عزائمها). وبها أبتعد عن فوضى المجتمع، وعمقت لديه الرؤية الشعرية والإبداعية وأنضجت مستواه الأدبي والفكري، فلا عجب أن الشاعر (الجياشي) أدمن العزلة، عاش بعيداً عن الأضواء، فهو الغائب بشخصه والحاضر بنصه، الذي دشن به هويته الشعرية، يتأمل ذاته في الكتابة الشعرية، وحرص كل الحرص على عزلته، فهي عنده حاجة نفسية ملحة كحاجة الماء والهواء.
عرفته منذ أكثر من أربع سنوات ولكن لم التقيه إلأ مرة واحدة، جمعني بالشاعر الراحل عالم (الفيس بوك) الأفتراضي، حتى التقيته في شتاء هذا العام في بغداد قادماً من محافظته (السماوة)، بحضور الأستاذ الناقد (محمد شنشل الربيعي)، كان حضوره الى بغداد لغرض أجراء بعض الفحوصات الطبية، نتيجة أصابته بمرض السرطان في حنجرته.
كانت لي أتصالات عبر الهاتف طيلة هذه السنوات، تكاد أن تكون أسبوعية، وكنا نطيل الحديث في شؤون وشجون الواقع الشعري والأدبي بشقيه العراقي والعربي، فما أرى منه إلأ ذلك الأديب المتمرس والشاعر المبدع والناقد الثاقب المتميز بطروحاته وأرائه.
كان (الجياشي) شاعراً مبدعاً، كتب نصوص لها عمقها الفلسفي والشعري، تحملنا الى فضاءات الأبداع والتفكير، شاعر أحترم قلمه وأحترم قارئه. تمتع بطاقة أبداعية وثقافية نابعة من فكر أصيل وصادق. وكان مفكراً وأديباً وشاعراً وناقداً مشاكساً متمرداً عنيداً، لا يخشى لومة لائم، ومدافعاً عن قناعاته وأرائه، وصريحاً لا يساوم، صافي الذهن في التزامه الوطني، فهو ابن هذه الأرض الحزينة وهذا الوطن الجريح الذي فقد بوصلته. عاش أغلب حياته في المنافي، نتيجة أنضوائه السياسي والأيديولوجي في صفوف اليسار (الحزب الشيوعي)، الذي تركه لاحقاً، بسبب خلاف سياسي، أعاد على أثره النظر في كل طروحاته ورؤاه الفكرية والأيديولوجية والعقائدية، متبنياً منظومة فكرية، مع أيمانه ببعض الطروحات الماركسية، لذا نراه يرفض الظلم في كل حين، لأن نفسه تأبى إلا العيش بعزة وكرامة، لا يعرف المساومة ولا المهادنة، يحمل قضية وطن وهموم شعب، يؤمن بالإنسان وسعيه من أجل الحرية وكرامة العيش.
الشاعر (الجياشي) يجسد خطاباً قلقاً، مرتبطاً أرتباطاً كلياً بالوطن ممزوجاً بالمشاعر الوطنية التي تنم عن قلقاً وجودياً ووطنياً. كان يقرأ على مسامعنا مزاميره، فيقدم نموذجاً شعرياً منزلقاً عن الداخل العراقي، منحه رؤية وجودية لحاضره من خلال ما يمتلك من وعي أبداعي ومعرفي. فهو يربط بين حالة الأنكسار ومرارة اللحظة التي يمر بها العراق. كان أحد أصحاب المشاعل الوهاجة التي تنير الدرب نحو الهدف الصحيح لخروج العراق من النفق المظلم. كونه نموذجاً للحلم الذي ظل يسعى له طوال عمره.
كان يميل في مجمل أعماله الشعرية إلى نزعة التغيير والتجديد، وأستطاع أن يترك بصمته في مكتبة الشعر من خلال أصداره عدة دواوين مهمة ومؤثرة، واجتهاده وسعيه في تطوير ذائقته الشعرية وثقافته الذاتية، التي لم تتوقف حتى قبل وفاته بأيام قليلة جداً.
أن أبرز ما تركه الشاعر (الجياشي) هو كسر حاجز اللغة، فهو القادر على أن يخترق حجب اللغة ويفجرها داخل النص، وتسخير إمكانياتها والتلاعب بتراكيبها، وأقتحام المسكوت عنه،
مما يمنح نصوصه خصوصية شعرية تجعله يتميز عن غيره. فهو يحفر في اللغة، لغرض الغوص في ثنايا خياله وإعادة تشكيل النص وصياغة صوره الشعرية، عبر تكثيف للغة والأفكار والإنزياحات والاقتصاد بها، فتنفتح على فضاءات جمالية وشعرية وفكرية واسعة، باحثاً عن الحقيقة في اللاوعي.
ان الخزين المعرفي للشاعر (الجياشي) مرده الى أمرين أساسيين لا ثالث لهما؛ العملية التراكمية المثخنة بالقراءات التي شكلت مداركه الأولى في صياغة كينونته الذاتية. والأمر الأخر التجربة العميقة المتنوعة في أحداثها الفكرية والنفسية، المختزنة في ذاته، نحتت أثارها في تضاريس لا وعيه، ولم تكن في غالبها خاضعة لهذا اللاوعي، بل هي نتاج حالة قسرية.
كذلك، نصوصه في تراكيبها هي حالة من (التداعي الحر) لأفكاره وأنفعالاته، يفصح بها عن ذاته، بلغة (حلم فوضوي)، وهذه حالة (ميتاشعرية).
أن الرحلة الشعرية لنصوص الشاعر (الجياشي) لم تأتي من خلال ترف شعري مريح بل فيها من المعاناة والجهد المبذول الذي ينسجم مع إبداعه في نسج نص شعري يستحق التوقف عنده. الذي يجعل الآخر المتلقي والمتأمل في نصوصه هو الدقة في إستخدام العلامة الرقمية التي تحدث تناغم بين الكلمة والحركة الرقمية في المكان والمعنى. فعند قراءة نصاً شعرياً لـ(الجياشي)، نرى ترابطاً ذهنياً ووجدانياً بين المتلقي وسياق النص. فوجود العلامات لم يكن أعتباطياً أو عشوائياً كما يستخدمها البعض وكأنها زخرفة جمالية للنص لا معنى لها، بل هي قصدية حداثوية واعية لطبيعة وغرض العلامة السيميائية المنسجمة مع طبيعة وحداثة النص، فهي دلالة يعنيها الشاعر ويقصدها. فـ(الجياشي) يستدرج علامة الترقيم لنصه الشعري لغرض توظيفها لخدمة الرؤية الإبداعية لديه، والتعامل معها كدلالة لغوية وبصرية تعكس دلالات ووظائف جديدة.
فالشاعر (الجياشي) في ورشة عمل فنية وأبداعية يريد بها إعادة تشكيل النص في إطار جديد ومغاير. فيجعل للنص قراءات وتأويلات متعددة
، يخترق بها حدود وقواعد المدارس الشعرية، التي دأب الشعراء على أن لا يغادروها حتى أمست مسلمات شعرية يتم النظر اليها بقدسية لايمكن المساس بها. فنصوصه الحديثة منفتحة على رؤى فلسفية وتشكيلية وفكرية، فيجب أن نفهم ضرورة التحديث الذي قام به، من خلال فهم الدافع الفني الذي أنطلق منه في تحديث الشكل وتفعيل محتواه بعيداً عن التناقض مع المضمون.
(الجياشي) في رؤيته الشعرية يطرح أشكالية كونية تبتدئ من اللفظة التي هي البذرة الأولى للغة وتنتهي بالحياة، فهو يبحث عن وسائل وتراكيب تضاف إلى النص تنحى منحى لغوياً تتسع الحياة، أعطاء للغة قوة إيحائية تمكنه أن يجعل من علامات الترقيم والعلامات الرياضية معادل موضوعي. البعض يستخدم هذه العلامات، كشكل بصري، أما (الجياشي) يستخدم كل علامة بقصدية ويوظف المعنى المراد منها أو تكون خادمة للمعنى.
هل هناك من كتب في هذا النوع من النصوص؟ هناك من إستخدم هذا الشكل ومحتوياته ولكن دون قصد، إلا للإثارة والزخرفة، فلا توظيف عقلي أو ذهني في أستخدامها، وإنما للزخرفة اللفظية ليس إلا، فهناك من وضع أرقاماً وظفها بصرياً وليس علمياً ولا تؤدي أي غرض. فلو قمنا برفعها من نصوصهم سنجد النصوص مكتملة ولن تحتاجها، فوجودها وعدم وجودها سيان، بينما النص عند (الجياشي) لو تم حذف علاماته سنجده مبتوراً.
أن الأسلوبية الشعرية للشاعر (الجياشي) يصفها الناقد العربي المغربي الدكتور (المصطفى بلعوام) في قراءاته لنصوصه أنها (مغامرة "ذات" في اللغة وما دون اللغة لإخراج الشعر من سلطة الملفوظ اللغوي عليه، إنها مقامرة في عالم شعرية التعبير الذي لا يتحدد في وجوده باللفظة أو المفردة). فهو يعمل على تفكيك العناصر الداخلية للنص ثم إعادة تركيبها من خلال أعتماد الرموز الرياضية والأشكال الهندسية التعبيرية.
كتب عن تجربة المرحوم (الجياشي) الناقد العربي المغربي (صالح هشام) يقول: (وانت سيدي لا تقل أهمية عن الشعراء الذين أخذوا على عاتقهم تجديد القصيدة الشعرية ... وأرى استاذي جاسم ان التجربة التي تخوضها تستوجب منا التشجيع والتصفيق، لأنك كانت لك الجرأة على المغامرة كما قال استاذي مصطفى بلعوام). لـ(إنك تجمع الخيال والتناقض والمنطق، فتجد نفسك تشتغل خارج المنطق، وما (مغامرة الابداع) إلا اعتماد على جمع مالا يجمع، والتأليف بين المختلف ولعل هذه الخاصية هي التي تخص هذا الشاعر أو ذاك دون غيره). "التجربة الإبداعية، المغامرة في شعر جاسم ال حمد الجياشي/ انطباعات نقدية، بقلم/ صالح هشام".
أنه يكتب وفق منهج عربي خالص لايعتمد باي شكل من الأشكال المناهج الغربية ويصلح فيه العمل على جميع النصوص التي تتوفر فيها التراكمية السببية وهي كثيرة ولكن كتابها لايعلمون. يقول (الجياشي) عن تراكميته السببية:(اؤمن بوجود قانون عام يسير اشتغالات المعرفة وتراكميتها سببياً، وأنا اؤمن بالتشظي السببي حر الحراك والأختيار والتشكل لكنه يبقَ يشكل تراكماً سببياً معرفياً).
وهذا ما ركز عليه في تراكميته السببية وأشتغاله عليها والذي أصطلح عليها بـ(التراكمية السببية الأيجابية)، أما السلبي منها يقول عنه (هو ما يحصل لنا من ركود وأتكاء على ماضٍ نشتغل على جهوزيته لتطبيقه على واقع ومستقبل، دون الأخذ بعين الأعتبار، التشظي الأيجابي والأنشطار السلبي والأختيار).
كان (الجياشي) في مواجهة وجودية مع الموت ووجعه الجسدي والروحي والفكري والفلسفي، ولقطته الأخيرة في حياته. قال الفيلسوف الألماني (شوبنهاور) ذات مرة: (حتّام نصبر على الألم الذي لا ينتهي؟ متى نتدرع بالشجاعة الكافية فنعترف بأن حب الحياة اكذوبة، وأن أعظم نعيم للناس جميعا هو الموت؟). فكان الموت عنده خياراً يلتقي به، بعد أن خاض صراعاً مريراً مع المرض، وبعد أن قال كلمته الأخيره كاملة. فكان نصه (طواف /ــ في حضرة الموت..!) أخر ما كتبه وهو سياحة مع الموت الذي كان حضوره واسعاً في نصوص عديدة من شعره وبأشكال مختلفة.
طواف /ــ في حضرة الموت..!
كأني الآن ..
في مكانٍ/ــفسيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــح
فسيحٍ جداً /ــ تَشكَلتْ ملامِحهُ
من نقطة فُضُوليةٍ/ـ؟!
تَشظت دونَ نذير
ممسكاً بضفائرِ الريح
حيث البدايات الوعرة /ـــ ؟!
أنا /ــ والريح صنوان
نرتدي الورد الأبيض أكفاناً
في مواسم النواح !
حيث لا حدود
فاصلة بين الوان الوجوهِ !
كل ما حولي مباح
لا شيء يصد بصيرتي وبصري /ــ بلا عنوان
أسيح في الأمكنة
أتدحرج في الزمن المُتاح
كبائع حلوى/ــ للفراشات القتيلة/ــ ؟!
وأشلاء الطيور /ــ النحيلة !
والزهورٍ الهزيلة
لمْ تُنحر بعدُ /ــ لمْ تُمسْ
خَنقتها عن بًعدٍ
رياح الرذيلة /ــ ؟!
يلاحقني ظلي/ــ يلاحقنــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
يلاحقني /ــ وأسئلة كبرى .. ـــــــــــــــــــــــــــ ؟؟؟
فخطاب الموت في شعر (الجياشي) له ميزة تختلف عما تناوله الشعراء، فهو لايهاب الموت، ولايخشى قدومه وأقترابه منه، على الرغم من قناعته بحتمية الموت، وأنه أمر لا مفر منه، لا بد أن يتجرعه الانسان، شاء ام أبى، فلا سبيل الى الهرب منه، ولا ينجو منه أحد، فهو يصرح لي هكذا أثناء الحديث معه حول مرضه الذي مات فيه، فيظهر شجاعة وشدة بأس.
ترك (الجياشي) بصماته على تجربة شعرية غنية، ومسيرة إبداعية ونضالية. يقول ما يريد، وما يدور في ذهنه من منظور معرفي، يوظف الشعر كجزء داخلي من تجربته، للتعبير عن قضايا الإنسان المختلفة. فالشاعر لا يكون شاعراً إلأ أن يكون إنساناً، مرتبطاً أرتباطاً وثيقاً بقضايا الناس. فإذا كان الشعر (يعمل على تنسيق أحزان العالم، لكن كثيراً ما يرتبك أمام الموت) حسب قول هاوسمان، ذلك ــ الموت ــ الهاجس الوجودي والحقيقة المطلقة الذي لا يمكن الهروب منه، الذي شكل واقع يومي مأساوي في العراق. وموت الشاعر (الجياشي) تجسيد لهذه المأساة.
وأخيراً لا يسعني إلا أن أدعو لروح الفقيد بالرحمة والغفران، وأقول له: أيها الأديب والشاعر لا أقول لك وداعاً، لأنك باق في الوجدان، ولكنك ترجلت أيها الفارس بعد أن قدمت كل ما تستطيع، وأنرت الدرب للآخرين لمواصلة السير. رحمك الله أيها الفقيد الغالي، نم وأنت قرير العين بما قدمت وأنجزت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق