هناكَ عند ضفةِ الغروبْ
في وسَطِ الميدان عند نبع أنهر الدروبْ
وحيث قاصدُ الشمال يعطي ظهره لقاصدِ الجنوب
وحيث غُصة النوى تقطّعُ القلوب
في رهبة المكان والزمانْ
وعند نقطةٍ تفرق الحبيب والحبيبْ
وتُرفع الأكف للوداع في توجعٍ رهيب
رأيته من حسرةٍ وألم يلوب
ووجهه ممتقعٌ لا لون فيهِ
لفعته غيمةٌ من الدوار والشحوب ْ
يجثو على قارعة الطريقْ
لقيته وقد خبا من عينه البريق
مسافرًا قد ضيع الأنيس والصديق
وغاب في ذهوله يغفو ولا يفيق
يا قسوة المسير دونما رفيق .
على رصيف شارع كئيبْ
يعج بالمشاة والحُفاة
وربما العُراة
وتحت ظل غيمةٍ من التراب والذبابْ
أمام مقهىً موحش عجيبْ
مُجوفٍ كأنه مغارةٌ
قد نُسيت من ألف ِألفِ عامْ
تضج بالصراخ والسباب والهوام
وأهلها ما عرفوا الكلام
والناس فوق بعضهم تحسبهم رُكام
في مقلة الإعصار والزحام
تثاءب الغريبْ
وأسند الظهر إلى زاوية الجدارْ
تأمل الوجوه في وجومها، يلفها انكسار
ضئيلة، هزيلة، ناتئة عظامها
نافرة عروقها كأنما دقت على صليب
ومدّ ذيل كُمه يمسح عن جبينه ما خلّف الغبارْ
وسرّح العينين تقتفي سحابة النهار
كم مُّر من نهار
ما عدًّها لكنها عمرٌ من احتضار
في هيئة انتظار
مذ أدمن الرحيل والتسيار
وصحبة الرياح إذ تئن في القفار
مذ ألِفَ الدُوار فوق زبد البحار
واستطاب شهقة القطار
كم مَرَّ في محطةٍ
أو لاذ صوب مرفأٍ
أو حَطّ في مطار
ما لوَّحت له يدٌ في صالة انتظار
أو شيَّعته دمعتان حين يزفرُ الحديد والبخار
من كل مقهىً بائسٍ في صدره تذكار
عن النّعيِّ والبغيِّ وانتكاسة الرفاق والبوار
في قلبه مواجعٌ وحرقةٌ ونار
وتحت إبطِه الهزيل يستكين دفتر الأشعار
وجَعبةً بها ربابة قد هربت من صدرها الأوتار
ينتظر الآتي ولا يجيءُ
منذ ألف ألف ليلةٍ
يبيت مهملاً على ناصية الطوار
ويرهف السمع لما يقذفه المذياع من أخبار
مؤملاً أن يصدر القرار
يحمل في طيّاته خاتمة الأسفار
منتظرًا ما ملَّ الانتظار
يَنقضُ كل ليلةٍ ما غزلت يداه في النهار
ويدمن الشوق إلى البحار
منتظرًا عودة "يوليسيز" من متاهة التيار
مُحملاً بالدُرِّ والأصداف والمحار
أو موجةً تهوي به إلى غيابة القرار
وبعدها يكف عن أنينه وعزفه قيثار
وينتهي بذلك المشوار
ويُسدل الستار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق