يجري خلف القطط. يقسو عليها بالضرب. يطارد الكلاب يرميها بالحجارة. يمسك الطيور. يذبحها. ينتف الريش. كان غير ميال لمتابعة دروسه. يرفض اللعب مع أقرانه. حين أطل على الخامسة عشر ظهر عليه الهبل بوضوح. وازداد شراهة بأعماله التي باتت مزعجة لأهله وأهل الحي. ورغم جهود والده ألا أنه لم يتغير. كان يتشاجر مع الفتيان بلا سبب. يختلق الأعذار الواهية. مما زاد الحرج على والديه وإخوته. ووسط تلك الأجواء وصلهم خبر توعك عمه الساكن بإحدى القرى. وبقدر حزن الوالد وقلقه على أخيه إلا أنه توسم الأمل في هذه الرحلة لو صحبهُ. هناك سيجد الكثير. القرية فيها ما يعجبه حتما. كانت المحطة الأولى لحظات الوصول. أحس بعلامات التعجب وهي تعتريه. فهو لا يحيد بنظره عن المواشي والأغنام وحتى الكلاب المنتشرة هنا وهناك. ذلك جعل الوالد يمنحه الوقت. ليشعر بنشوة تلك المشاهد. في الليل كان ينصت لنباح الكلاب. نقيق الضفادع. ثم طلب الخروج ليقف أمام الباب الكبير. أشترطوا عدم الذهاب بعيدا وأخافوه من حيوانات مفترسة قد تهجم عليه. كان يرغب سماع الأصوات القادمة من أماكن عدة. لحيوانات وحشرات شتى. أمضى بعض الوقت عاد ينصت لأحاديث عمه مع والده وكانت عن أحداث عصفت بالقرية. ثم شكا ضعف حالته. عدم قدرته متابعة الأعمال الكثيرة. فاغنامه تارة عند راع وأخرى لدى غيره. ومواشيه بالكاد تحظى برعاية زوجته والتي أدركها تعب السنين. كانت تعينها الجارة(سليمة الأرملة ) ألا أنها خطبت وسترحل قريبا. ثم قال. :
- لو كان عندي ولد مثل (ماهر) لأعانني.
حين سمع(ماهر )، خطرت له فكرة البقاء. لأنه ألِفَ القرية. يسعده المكوث فيها. قرر البوح لوالده وذلك أفرح عمه. وأسعد زوجته. وجعل الوالد يتوسم الخير من بقاءه. بعد أن أدرك التغير الذي طرأ عليه. فغادر القرية لوحده. أبتدأ (ماهر) مشواره الجديد. كان في النهار يأخذ الأغنام. يعود بعد الظهر يتابع الأعمال الأخر. بدا له العمل مثيرا. أفضى ما عنده من رغبة ومتابعة. وبعد فترة أفلح بعض الشبان بإقامة الصلات معه. تعامل معهم بجدية واهتمام. كان يحذر من سخريتهم. ولابد من أعطاء الصورة الجيدة. نجح وتطورت تلك العلاقة. كانوا يخرجون في الليل لقضاء الأوقات الممتعة. شعر بالأنطلاق لآفاق جديدة. فالأرض التي يقف عليها منبسطة. بلا أبنية مرتفعة أو معامل تنفث الدخان. أنه الهدوء الذي يستكين مع مشاعره والذي غير أفكاره. تذكر حياته الماضية وكيف أعيا أهله وازعج سكان الحي. لم يكن بحاجة لدواء. أنما بحاجة لأشياء لا يفهمونها. الآن بلغ الثامنة عشر. هذا العمر يتطلب تصرفات مغايرة. أخذ يمتلئ بالأحاسيس الطارئة والتي أدرك أنها أوقفت بلاهته. سارت نحو سما نفس متوثبة لطريق هو من يرسمه. يكفيه ما حصد من هواجس العجلة ومن خيالات جامحة. تحرر من الماضي. فك قيوده. لم تعد لديه سابقة. أنما حاضرٌ يلوح بالمفاجأة الجميلة. فاتضح إعجابُ الأهالي بطباعه واتزانه. وحين زاره الأهل لم يروا ما يخشونه.حتى تعجبت أمه. ظلت تطبع على خده القبلة تلو الأخرى بين الحين والآخر. ذلك جعل زوجة العم تخشى من أخذه لكنهم طمأنوها ورحلوا من دونه. بعد أشهر خطف الموت عمه و زوجته. ظل لوحده. كان أحد وجهاء القرية يتابعه. تقرب منه وزوجه أبنته الوحيدة. توشح بالجدية والحدة. أنجبت زوجته ولدا بعد سنة اتبعته بآخر. ذات مساء كان يتأمل. يقرأ سنينه. الآن لم يعد بحاجة لمطاردة القطط أو متابعة الكلاب. ليس لديه رغبة الذهاب لحفلات الأثارة. أمتدح أفكاره. وفي ليلة عاصفة. أطل الجديد. فقد اندلعت الحرب. دخل الجنود الغرباء. لملم ما يملك. خبأه في مكان أختاره بعناية. في أحد الأيام قدمت مجموعة من الجنود. طلبوا مرافقتهم. هناك دخل على الضابط الذي كان بأنتظاره. قال له. :
- أنت معروف هنا ولابد من تعاونك معنا..ستشارك بالأنتخابات ونقوم بمساعدتك.
- مستعد لذلك. أجاب بحماس.
عاد إلى بيته يشعر بالسرور. تحدث مع زوجته وولديه. وضعت له الدعاية التي تمتاز بالأبهة ووصفوه بالتميز وبالمواهب الفذة. كان قد أغدق على الكثير بما يحتاجون. حصل على منصب لم يكن يحلم به. وتغير من جديد. ذات يوم ذهب بمركبته الفخمة معه رجال حماية أقوياء لزيارة الحي الذي ولد فيه. أستقبله الأهالي بكلمات الأطراء والأعجاب. بذات التعجب الذي كان يطارد فيه القطط والكلاب وكذلك الطيور والثعابين.
أفكار شتى تداهمه بين آن وآخر. كان يتجاهلها في باديء الأمر متصورا انها فوق طاقته، لكنها الآن أمام عينيه وكأنه يتلمسها. ذلك الصف من الشباب الملوحين له فرحين والصغار الذين هرولوا خلف صف السيارات الرباعية الدفع. زهوٌ وفخرٌ قد عم الجميع، لكن رجلا واحدا لاحقه بنظرات بدت حاقدة، أخذ حيزا من تفكيرة. إنه "عذيِّب" ذلك المتنفذ الغني المالك لعشرات الرؤوس من الغنم والبقر. نظرات مسمومة لاحقته وبدا يوسع دائرة الشك. لأبد ان يكون له موالين، وأيضا عائلته وأبناءه العشرة . حاقدون كلهم حاقدون.
وكانت السماء في تلك الليلة متوهجة على غير عادتها.. صراخ وعويل واستغاثة استمرت دقائق ساد بعدها هدوء مريب. وبدت فرحته لاتوصف وهو ينتظر ساعات الفجر، عندما أبلغوه بأن كل شيء تمام.
- تمت تصفيته وعائلته وبقي الآخرون ضمن البرنامج.
- وهل لاحظكم أحد؟
- لا سيدي. الأمر اليك. سنكون رهن اشارتك.
اغتيال واختطاف وإلصاق تهم تنتهي لحبل المشنقة وفي المقابل تتعالى هتافات الحب والإعجاب. دنانير تتساقط كالمطر وطموح يشتعل. نهض من كرسيه وفتح نافذة غرفته وتمتم بكلمات بدت غائرة في أعماقه..
- ها أنا يا صديقي أخبرك وبكل فخر. سيكون الشعب عبيدا لى . رقاب لاتحصى سقطع لكنني سأظل وإلى الأبد عبدًا لك أنفّذ كل ما تقول. لابد أن أكون الأوحد. وسأكون بالتأكيد. رفع يده وانحنى قليلا ثم قبله ثلاثًا وهو يشم صفحاته..
- أيها "ألامير..". لقد حدث الكثير وأنا في بداياتك.. ما أروعك! ما أروعك!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق